هل سألت نفسك يوم لماذا تزداد دول العالم الثالث فقراً برغم امتلاكها الموارد الطبيعية والبشرية؟ من يدير اقتصاد العالم؟ ما هي الآلية التي تسيطر بها الولايات المتحدة الأمريكية على مرافق الدول و مواردها ؟ ما هي المعايير التي من خلالها تضفى أمريكا شرعية دولية على الحكومات حتى لو كانت في غاية الاستبداد و على رأسها مجرم حرب ؟
“هناك طريقتان لقهر و استبداد أمة، الأولى هي بحد السيف والأُخرى هي عن طريق الديون” جون أدامز.
يقوم النظام العالمي الإمبريالي الجديد بنهب ثروات الشعوب بطريقة لا تكلفه شئ فهو لا يحتاج إلى التدخل العسكري، وإنقاق المليارات يكفيه أن يغتال اقتصاد الشعوب، تتلخص الفكرة في اختيار الكوربوقراطية الدول الغنية بالموارد المراد الاستيلاء عليها فترسل القتلة الاقتصاديين بدراسات مبالغ فيها لإغراء الدول، في حالة الفشل يتدخل الـ CIA فيدبر اغتيال أو انقلاب، ولا مانع من التدخل العسكري لو لزم الأمر فكل المؤسسات العالمية لن تعترض فهي راكعة تحت عرش الإمبراطورية .
كيف يغتالون الأمم اقتصادياً ؟!
يقوم الخبراء ” القتلة الاقتصاديون ” في الشركات الاستشارية الأمريكية بتحديد بلداً لديه موارد “مثل النفط ” ثم إعداد دراسة بناءا عليها يتم الترتيب لقروض دولية ضخمة بفوائد مركبة من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدولية والأمريكية لتمويل مشاريع اقتصادية وفقاً لتك التقارير والدراسات المبالغ فيها عن معدلات النمو غير المتوقعة حيث تضخم بشكل متعمد لخداع الدول وإغرائها بقبول تلك القروض، ويتم إغواء السياسيين في تلك البلد بمنافع شخصية للموافقة على تلك القروض الضخمة، توافق المنظمات المالية على تقديم القرض لتطوير البنية الأساسية و بناء محطات توليد الكهرباء والطرق و المدن الصناعية و غيره من المشروعات الحيوية لكن بشرط قيام مكاتب الهندسة وشركات المقاولات الأمريكية بتنفيذ هذه المشروعات، هكذا لا تغادر الأموال بنوك أمريكا فهي تنتقل من بنوك واشنطن لحسابات نيويورك !! وتتضاعف مكاسب أمريكا عند تعثر الدولة النامية في سداد أصل القرض والفوائد وهو الشيء الدائم الحدوث، بعدها تنصب الامبراطورية العالمية الفخ لتلك الدول عن طريق طلب شراء النفط بسعر رخيص لشركاتهم النفطية، بناء قواعد عسكرية أو المساهمة في حرب مثل ما حدث مع بعض الدول في العراق، التصويت معهم في الأمم المتحدة على قرار ما، ومن أخطر الابتزازات هي خصخصة بعض الشركات لصالحهم والسيطرة على موارد الدولة وفي حالة استعصاء الدولة يأتي دور الـ CIA فتقوم بتدبير محاولة اغتيال رئيس الدولة وشن هجوم إعلامي والتدخل العسكري ليس ببعيد وهكذا تسقط الدولة في أيديهم والعجيب أنهم يعدون كل ذلك واجباً وطنياً مقدساً !!
مع مرور الوقت تزداد الفجوة بين الأغنياء والفقراء في دول العالم الثالث، حيث أن عبء القروض سيؤدى إلى حرمان الفقراء من الخدمات العامة لعقود قادمة فقد وصلت مديونيات العالم الثالث لـ 2.5 تريليون دولار، أما الأغنياء فهم أصحاب نفوذ سياسي واقتصادي داخل الدولة ولا يوجد تأثير حقيقي عليهم .
هذه بعض النماذج التي ستساعدك على فهم :
1- إيران أول ضحايا القتلة الاقتصاديون:
عندما تولى محمد مصدق رئيس وزراء إيران منصبه في خمسينيات القرن المنصرم أراد أن يأمم نفط بلاده فحذر الشركة البريطانية إنها إذا أرادت العمل في إيران أن تعطى البلد النسبة الأكبر من عائد النفط، خشت أمريكا من تعاظم نفوذ مصدق وتحالفه مع روسيا وفي نفس الوقت لم تجرؤ على تدخل عسكرى، فقامت بإرسال عميلها ” كيرميت روزفلت “، سافر روزفلت إلى إيران واستطاع أن يجند حفنة من الإيرانيين الخونة و قاموا بتنظيم مظاهرات لم تكن كبيرة العدد لإسقاط مصدق في مقابل مبالغ مالية ضخمة وتم الانقلاب على مصدق و وضعه تحت الإقامة الجبرية وأعاد روزفلت الشاه المخلوع مرة أخرى لكرسي الحكم، هكذا نجحت أول تجربة اغتيال اقتصادي دون أى عناء .
2- نموذج غواتيماليا :
كانت غواتيماليا لعبة بأصابع شركة الفاكة المتحدة ” يونايتد فروت ” و الشركات الدولية الكبرى، وفي الخمسينيات من القرن العشرين أنتخب ” أربنز “صاحب مقولة ” نريد إعادة الأرض للشعب ” رئيسا لغواتيمالا من خلال انتخابات حرة تمت لأول مرة في هذا البلد، بمجرد توليه السلطة تبنى سياسة إعطاء حقوق ملكية الأراضي إلى الشعب وأعلن عن برنامج للإصلاح الزراعي يهدد شركة ” يونايتد فروت ” ، وتعد تلك الحادثة سابقة خطيرة حيث أراد أربنز الخروج من المنظومة ورفع الهيمنة عن بلاده، فقام الإعلام الأمريكي بشن حملة دعائية بانه شريك السوفيت في مؤامرة على أمريكا، في عام 1954 خطط الـ CIA للانقلاب علي الرئيس المنتخب ديمقراطيا، كعادة أمريكا لا تعطى شرعية دولية إلا للحكام المسبحين بحمدها المشاركين في سرقة ثروات بلادهم وهذه هي الديمقراطية، والحرية يا عزيزي. ضرب الطيارون الأمريكيون العاصمة و استبدل ” أربنز ” بالديكتاتور ” كارلوس أرماس ” فألغى على الفور الإصلاح الزارعي و الضرائب على الاستثمارات الأجنبية وأعاد بلاده لأحضان الهيمنة مرة أخرى، كما أودع في السجون الآلاف من معارضيه .
3- نموذج الإكوادور:
قام القتلة الاقتصاديون بدفع الإكوادور نحو الإفلاس بهدف السيطرة على غابات الأمازون التي تحتوى على احتياطي نفط منافس للشرق الأوسط ، فخلال ثلاثة عقود ارتفع حد الفقر من 50% إلى 70% من السكان، و ازدادت نسبة البطالة من 15% إلى 70%، والدين العام من 240مليون دولار لـ 16مليار دولا، وتخصص الإكوادور قرابة 50%من ميزانيتها لسداد الديون، و أصبح الحل الوحيد أمام الإكوادور هو بيع غابات الأمازون للشركات الأمريكية لشراء ديونها، و كان الاتفاق انه من كل مائة دولار من خام النفط يستخرج من الغابات تحصل الشركات الأمريكية على 75 دولار منه و 25 دولار للإكوادور و يذهب من نصيب الإكوادور 75% لسداد الديون الخارجية و المصروفات الحكومية و يبقى 2.5 دولار فقط للصحة و التعليم و باقى المرافق المخصصة لخدمة الفقراء .
جايمى رالدوس :
كما ذكرنا أن الإكوادور كانت خاضعة لسيطرة الشركات الأمريكية، لكن الأمر تغير بعد انتخابات حقيقية فاز فيها رالدوس بنسبة غير مسبوقة في تاريخ البلد، كان مهتم جداً بقضايا الفقراء وبدأ في اتخاذ قرارات تجعل عائد النفط يذهب للشعب، قرر رولدوس أن ينهى هيمنة الإمبراطورية الأمريكية على بترول بلاده فأصدر قانون الهيدروكربون ” و هو قانون منظم لاستكشاف وبيع البترول ” و اتهم معهد الـ SIL علنا بالتآمر مع شركات البترول و طردهم خارج البلاد، و حذر كل أصحاب المصالح الأجانب بالتحديد شركات البترول أنهم إن لم يضعوا خططاً لمساعدة الإكوادور فسيرغمون على مغادرة البلاد، لكن الإمبراطورية الأمريكية لم يعجبها سلوك رالدوس التحرري فجاء دوره هو الآخر، في أول الأمر أرسلت أمريكا قتلة اقتصاديين للتفاوض معه فحاولوا أن يقنعوه أن يتراجع عن تلك القرارات مرة بالترغيب ومرة بالتهديد بالقتل أو العزل لكنه لم يتراجع، فتم اغتياله في حادث طائرة، ما إن تحطمت الطائرة حتى تم تطويق المكان بالكامل ولم يسمح بدخول أحد إلا فرقة من الجيش الأمريكي المتواجدة في قاعدة عسكرية قريبة وعناصر من جيش الإكوادور، أما الشاهدين الرئيسيين لقوا مصرعهم في حوادث سيارات قبل الإدلاء بشهادتهم .
4- نموذج بنما وعمر توريخوس:
عمر توريخوس رئيس بنما كان هو الآخر مناصر للفقراء، كان يأمل في تحرير بلاده وأن تعود قناة بنما لسيطرة الشعب البنمي ومساعدة بلدان أمريكا اللاتينية لنيل استقلالها، استطاع أن ينتزع السيطرة على قناة بنما من خلال معاهدة تم التصويت لها في الكونجرس بفارق صوت واحد فقط ، كما قام بطرد المعهد الصيفي للغويات ورفض بصلابة الاستسلام لطلبات إدارة ريجان بشأن إعادة التفاوض في معاهدة القناة، جمع عمر عائلته بعد اغتيال رالدوس رئيس الإكوادور وأخبرهم أنه يشعر أنه التالي ولا مشكلة في ذلك حيث انه حقق حلمه وأعاد القناة لسيادة بنما، بعدها بمرور شهرين تم اغتياله في حادث طائرة مثل رالدوس !!
بعد وفاة توريخوس تولى الحكم نورييغا كان مهتما أيضا بالفقراء. وكان أهم مشروعاته مواصلة اكتشاف إذا كان هناك إمكانية لشق قناة جديدة يمولها اليابانيون مما يعنى أن شركات الهندسة الأمريكية ستخسر فرصة عمل جيدة، رفض أن يمد عمل مدرسة الأمريكيتين 15 سنة أخرى، لكنه لم يكن بنزاهة ووطنية عمر فمع مرور الوقت اكتسب سمعة سيئة مع اتهامه بالفساد وتجارة المخدرات، انتهز بوش هذه الفرصة قام بغزو بنما، كان مبرر أمريكا للغزو هو مطاردة رجل واحد وتخليص بنما من خطر الديكتاتور الفاسد، وكأن لهم الحق في هذا؟! قام الجنود بإضرام النيران في أحياء ضخمة من العاصمة، و قتل أعداد لا تحصي من أطفال بنما و تشريد نحو 25.000، بهدف قتل رجل واحد! وفي النهاية ألقوا القبض عليه وصدر الحكم بـ 40 عام.
5- نموذج فنزويلا :
تولى شافيز السلطة وتحدى الإدارة الأمريكية وكانت أمريكا في تلك الوقت مشغولة بالتفكير لخطة للعراق و فنزويلا فقامت بغزو العراق عسكرياً، أما شافيز فتكرر له ما حدث لمصدق، دبر رجال الـCIA انقلاب عسكري ودفعوا رشاوي لضباط الجيش كما حرضوا العمال على عمل إضراب فعرقلوا العمل، ولكن هذه المرة حدث ما لم يكن فى الحسبان، حيث عاد شافيز مرة اخرى إلى سدة الحكم بعد 72 ساعة من الانقلاب عليه، وقعت تلك الأحداث فى عام 2002 في الوقت الذي كانت تستعد فيه أمريكا لغزو العراق فلم تستطع أن تُعادي جبهتين في آن واحد .
6- نموذج العراق :
العراق تم اغتيالها بشكل مختلف، فبعد فشل القتلة الاقتصاديين في رشوة صدام أو ابتزازه، وفشلت الـCIA في خلعة و تدبير انقلاب عليه، جاء دور التدخل العسكري، شنت أمريكا غارات جوية و برية طالت الأطفال و النساء، كان التدخل بحجة امتلاك العراق أسلحة نووية و أن صدام ديكتاتور طاغية مستبد، وكأنهم هم الحارس المنقذ، والملائكة الطاهرة! دخلوا على ظهر الدبابات وتم القصف بالطائرات لجعل العراق دولة متحضرة حرة ديمقراطية ولكن الحقيقة أن العراق تحت الحصار أصّر عام 2000 على تقاضي ثمن نفطه باليورو، و هو ما اعتبره بعض الكتاب مثالاً ساطعاً على ما أسموه بـ ”حروب البتر ودولار”، إذ رأوا أن ذلك أحد الأسباب الحقيقية للعدوان على العراق، سقطت العراق في أيديهم. وبعد ما عاثوا فيها الفساد أطلقوا حملة إعمار العراق التي بالطبع ستقوم بها الشركات الأمريكية، و في تلك الحالة سيطر الأمريكان على النفط ومليارات خطة الإعمار و انتهوا من إزعاج صدام لهم .
7- نموذج السعودية :
في 19 أكتوبر طلب نيكسون من الكونجرس 2.2 مليار دولار مساندة لإسرائيل، فقامت السعودية و غيرها من البلاد العربية بحظر كامل على سفن البترول المتجهة للولايات المتحدة، انتهى حظر البيع بعد فترة قليلة في 18 مارس 1974، لكن سعر بترول السعودية تحول من 1.39 دولار للبرميل لــ 8.32، تنبهت أمريكا واستفادت من الدرس و تم عمل مفاوضات بين البلديين . أسفرت المفاوضات عن إنشاء وكالة التنمية الأكثر غرابة في التاريخ و هي اللجنة الأمريكية السعودية للتعاون الاقتصادي، تعتمد هذه اللجنة على الأموال السعودية لتمويل الشركات الأمريكية في بناء المملكة العربية السعودية، كانت اللجنة تحت إشراف وزارة الخزانة الأمريكية التي لجأت للقتلة الاقتصاديين و طلبت منهم إخراج تقارير غاية في الإبداع لتبرير استنزاف مئات الملايين من الدولارات من اقتصاد السعودية لم يكن الهدف هذه المرة إغراق الدولة بالديون بل كان محاولة استرداد للملايين التي خسرتها بسبب حظر البترول . كانت السعودية غاية في التأخر و التخلف فقدم المستشارين عدة مشاريع ، كانت القمامة تجمع عن طريق الأغنام للتخلص منها فلعب المستشارين الأمريكيين على هذا الوتر و أنه من غير المعقول أن تكون دولة في القرن العشرين تتخلص من القمامة بتلك الطريقة، استغل الأمريكيون نقطة الأغنام واستنزفوا ملايين من السعودية حيث أن القمامة تحتاج لشركات نظافة أمريكية تجمعها وعمالة غير سعودية تحتاج مساكن ومستشفيات وأسواق وخطط لمعالجة المياه والكهرباء ووسائل النقل. مشروع مؤسسات تصنيع خام البترول، الذي تحتاج لإنشاء مجمع لصناعة البتروكيماويات تحيطها مناطق صناعية وعمرانية ضخمة، محطة توليد للكهرباء و خطوط للنقل و التوزيع و خطوط أنابيب لنقل البترول و وسائل مواصلات متضمنة مطارات جديدة و تحسين الموانئ . لضمان تبعية السعودية للولايات المتحدة تعهدت السعودية بضمان إمدادهم بالبترول بأسعار خاصة في المقابل ستمنح واشنطن لبيت آل سعود دعما سياسياً و عسكرياً عند الضرورة و ضمان استمرارهم في الحكم.
السؤال الآن: من يدير هذه الإمبراطورية؟!
يعد الحاكم الفعلي للإمبراطورية الأمريكية هي شركات ” الكوربوقراطية ” وهم مجموعة أفراد يديرون الشركات الكبرى ويتصرفون بوصفهم الأباطرة الحقيقيون لهذه الإمبراطورية، يسيطرون على الإعلام الأمريكي، يسيطرون على السياسيين لأنهم يمولون حملاتهم الانتخابية، علاقتهم بالسلطة متداخلة بشكل كبير فهم دائمو التنقل بين مناصب في الشركات والحكومات. على سبيل المثال ” هالي بون ” كان رئيس لشركة إعمار ثم نائب رئيس الولايات المتحدة. تقوم “الكوربوقراطية” برسم شكل السياسة الأمريكية ثم تقدم للحكومة ومن ثم تصبح سياسة الحكم، فهي علاقة ودية تكاملية.
المصادر: التقرير يعتمد بشكل رئيسي على كتاب اعترافات قاتل اقتصادي، كتبه الكاتب الأمريكي جون بيركنز، ونُشر في عام 2004، وهو عبارة عن مذكراته الشخصية، الذي يصف فيه وظيفته كـ “قاتل إقتصادي” بحسب وصفه، والتي تُلخّص الأسلوب الجديد للولايات المتحدة الأمريكية في السيطرة على دول العالم الثالث.
التعليقات