الإنسان الخالد!

الإنسان الخالد!

الأجساد أوعية الأرواح!

فلا يظنن ظان أن حياته ستنتهي ببلاء أو فناء الجسد .. بل الحياة ممتدة … وخالدة! وإنما هي إعادة إفراغ للروح من وعاء قديم إلى وعاء جديد، أو تحويلها للقدرة على البقاء والخلود … بغير الحاجة إلى وعاء! فالموت يجعل الروح حالة قائمة بذاتها، كأنها تتحول من الحالة الغازية أو السائلة إلى حالة صلبة!

وتشبه إلى حد كبير أن يتم إفراغ سائل من كأس كارتوني بالٍ إلى كأس آخر زجاجي أو حجري، أو يتجمد سائلها فيمكنها الاستغناء عن الوعاء..

ولهذا كان الفارق بين عقيدة الإسلام وعقيدة الشرك أن المشرك أو الملحد أو العلماني يعتقد الفناء، يعتقد انتهاء الحياة بزوال الوعاء، وفناء الجسد، ولا يؤمن بما يسمى (الميتافيزيقا) أو ما وراء الطبيعة، أو ما يعرف في الاصطلاح الإسلامي والقرآني: (الغَيْب)، فكان من أولى صفات المؤمنين: (الذين يؤمنون بالغيب)[البقرة: 3]، ولهذا قال المشركون: (ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر)[الجاثية: 24]، فاعتبروا الوعاء (المرئي) الظاهر هو الفيصل والمبدأ والمنتهى، ولم يؤمنوا بهذا الخلود للإنسان، وحتى لما أرادوا أن يقاربوا مسألة الخلود التي نعتقدها، اعتبروا أن خلودهم في حياتهم، ثم موتهم، ثم حياتهم في ذريتهم وأولادهم، لا حياتهم هم: (نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) أي نموت بأجسادنا، ونحيا في ذريتنا التالية، فالخلود عندهم مجازي، والخلود عندنا حقيقي!

واعتقاد الفناء يشجع على الحيوانية والطمع والتهارج بين الناس، فإذا كانت الحياة الظاهرة هي المبدأ والمعاد، ولا حياة للروح؛ فلا سبيل للتسامح أو الرضا أو القبول بهضم حظ النفس لصالح الغير…

وبالرغم من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قام بتغيير الأسماء القديمة في الجاهلية إذا كان فيها مخالفة شرعية، كأن كان فيها تزكية، أو إذا تضمنت قبحا، أو تم تغييرها تفاؤلا، كما غير اسم بَرَّة إلى زينب، وقال صلى الله عليه وسلم (الله أعلم بالأبرار منكم)، وغيّر (قليل) إلى (كثير)، و(السائب) إلى (عبد الله)، و(العاص) إلى (مطيع)، و(العاصية) إلى (جميلة)، و(أبا مُرّة) إلى (أبي حلوة)، وغيّر (حُباب) إلى (عبد الله)، وقال أن حُباب اسم من أسماء الشيطان، بالرغم من كل هذا إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يغير اسم (خالد)، بالرغم من أن المشهور أن الإنسان ليس بخالد! بل كل من عليها فان، لكن النظر في هذا كأنه إلى خلود الإنسان كروح، وليس كجسد، فالاسم صحيح إذا اعتبرنا أن الإنسان روح خالدة، ولا اعتبار للجسد في مسمى الإنسان، فهو خالد على الحقيقة!

ولهذا أشار الحق تبارك وتعالى في آياته إلى الخلود، سواء النعيم أو الجحيم: (للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها، وأزواج مطهرة، ورضوان من الله)[آل عمران: 15]، وقال: (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين*خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون)[البقرة: 161،162]، فالخلود ملازم للإنسان إذا كان صالحا أو كان طالحا، وهذه هي الخطورة …

واعتقاد الفناء يشجع على الحيوانية والطمع والتهارج بين الناس، فإذا كانت الحياة الظاهرة هي المبدأ والمعاد، ولا حياة للروح؛ فلا سبيل للتسامح أو الرضا أو القبول بهضم حظ النفس لصالح الغير، بل سيسعى صاحب هذا المعتقد إلى أن (يُحَصِّل) كل شيء في الدنيا، ويستمتع بكل شيء في الدنيا، ففناء الوعاء مؤذن بنزول كلمة (النهاية) على قصته، في حين أن المؤمن يعتقد أن الدنيا (قنطرة) إلى دار أبقى وأطول، بل إلى دار الخلود ذاته! وبالتالي فإن تحصيله في هذه الدنيا قد يكون بقدر ما يحتاج، وما لم يحصله فهو يسعى لإكمال الحصول عليه في امتداد حياته بعد فناء الوعاء الذي يكبله، بل إنه في دار عدل مطلق، تنقشع فيها قوانين البشر الظالمة، بل تنقشع أيضا حظوظ النفس والغل والحقد بين الأرواح (ونزعنا ما في صدورهم من غل، تجري من تحتهم الأنهار، وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله)[الأعراف: 43]، (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين)[الحجر: 47]!

إن الروح الإنسانية من روح الله تبارك وتعالى (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)، فكانت من الأسرار التي تستعصي عن الإدراك المادي (ويسألونك عن الروح! قل: الروح من أمر ربي، وما أتيتم من العلم إلا قليلا)، وكان من سماتها الخلود وليس الفناء، فهي خارجة عن قوانين المادة..

ويظهر الإشكال في الاعتقاد (الجزئي) للمؤمنين بالفناء دون أن يدري، أو على الأقل الغفلة عن (الخلود)، فيتصرف باعتباره فانٍ، بالرغم من تصريحه (اللساني) وتأكيده على الإيمان بالغيب، وبالبعث والخلود، وهذا من آفات الفصام النكد بين الحقائق العَقَدية والأعمال التكليفية، ولهذا كان معتقد سلف الأمة رضي الله عنهم أن الإيمان ليس إقرارا باللسان، وليس (مجرد) اعتقاد بالجنَاَن (القلب)، بل لابد أن يُصَدِّقه العمل، فالإيمان تصريح بجارحة اللسان واعتقاد بالقلب والجنان، وعمل مُصَدِّق بالأركان، أي لابد وأن ينعكس الاعتقاد على السلوك، وإلا سقط مسمّى الإيمان بمجمله، أو قل منه بمقدار هذا السقوط من أفعال المكلف بما يوافق معتقده، فإذا كان يسعى لتحصيل اللذة في الدنيا، متغافلا عن الآخرة، وما تحمله من معنى الخلود، بمفهوم (احييني النهاردة وموتني بُكرة)، فقد وقع في فخ الانفصال بين ادعاء الإيمان بالآخرة والخلود، وبين سلوكه المنافي …

إن الروح الإنسانية من روح الله تبارك وتعالى (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)[الحجر: 29، ص:72]، فكانت من الأسرار التي تستعصي عن الإدراك المادي (ويسألونك عن الروح! قل: الروح من أمر ربي، وما أتيتم من العلم إلا قليلا)[الإسراء: 85]، وكان من سماتها الخلود وليس الفناء، فهي خارجة عن قوانين المادة، وهذا من آيات الله ورسائله للبشر والمكلفين، فلم يجعل الدنيا بكاملها عبارة عن (المادة)، بل جعل فيها ما يخرج عنها بإقرار البشر أنفسهم، فكان متوجبا عليهم البحث عن موجِب هذه اللطيفة الخارجة عن (القانون المادي البشري)، ليصل إلى الإيمان بالغيب، ويصل إلى خلود روحه، الموجِب لعمله من خلال (الوعاء) الجسدي الظاهر إلى ما فيه سعادة روحه الخالدة، فيتحمل بعض الفقد أو الألم في الدنيا، لينعم بلذات غير متناهية في الآخرة، وبلا نهاية!


التعليقات