الرد الوافي على د. القرة داغي

بسم الله الرحمن الرحيم
الرد الوافي على د. القرة داغي

قال تعالى: (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً)

كتب د. القرة داغي فتوى حول استعمال لفظ الشهيد وطلب الرحمة لغير المسلمين.

ورأيي أن محصلة هذه الفتوى وأمثالها من فتاوى هذا الخط وتلك المدرسة؛ إنما هو إسقاط حقائق الدين في نفوس المسلمين، ومهما كثرت فيها التوضيحات التي أراد أصحابها أن تبدو علمية فكم من المسلمين سيفهمها، ومن سبق الدكتور القرة داغي بها، وهي في حقيقتها دين جديد يتولى كبره من يقول به ومن يروج له.

وقد طار بها من لم يستدلوا بفتوى يوماً ولا هم يحترمون الفتاوى ولا أصحابها أصلاً، ولا يفهمون التأصيلات العلمية ولا أدلتها أو استدلالتها؛ من غلمان العلمانية ودعاة الليبرالية، وبعض البسطاء والعوام، وبعض الطيبين الذين يرون فيها “تحسيناً” لصورة دينهم الذي ظنوه محتاجاً إلى ذلك.

وردي على هذه الفتوى يتلخص فيما يلي:

أولاً: ملحوظات شكلية

الدكتور القرة داغي لم ينقل قولاً واحداً للعلماء في جواز الاستغفار أو الترحم أو إطلاق لفظ الشهادة على غير المسلم، ولم يذكر من أقوال أهل العلم سوى ثلاثة أقوال لا علاقة لها بتلك النتائج التي خلص إليها من رأسه هو!

١- فقد نقل عن الإمام السيوطي تعداد الشهداء في كتابه أبواب السعادة، ونسي أن يبين أن هذه الأصناف تنحصر فيمن يحسبون من شهداء الملة الإسلامية فقط، بدليل حديث مسلم الذي استدل به: (إن شهداء أمتي إذاً لقليل) ثم عدد ﷺ بعض أصناف أولئك الشهداء “من أمته” هو ﷺ؛ لا من النصارى -الذي يبدو أنه يقصدهم- ولا اليهود ولا البوذيين ولا الهندوس أو غيرهم من ملل الكفر الذين سيشملهم كلامه بالضرورة!

فكيف يستدل د. القرة داغي بما خصصه رسول الله ﷺ على ما عممه هو في ملل الكفر قاطبة، هذا لعمر الله شر ما سمعت به أذن أو رأت عينان!

وقد ذكرها د. القرة في معرض تسويغه إطلاق لفظ شهيد على الكافر، وان حاول ضبطها بتفضيل تقييد معنى الشهادة بالوطن او القضية ونحوها، ولكنه لم يمانع الإطلاق وهذا لا يسلم له مطلقاً ولا مقيداً لأن الأمور بمآلاتها عند الناس كما سنبينه.

٢- كما نقل د. القرة داغي عن الإمام البيهقي أن العمل الصالح ينفع غير المسلم وهذا لا خلاف فيه ولا علاقة له بترحم ولا استغفار ولا شهادة.

هذا ما استدل به من أقوال أهل العلم فقط ولا علاقة له بأي مما قفز إليه في تقريراته!

٣- وذكر تقسيم الإمام النووي لأنواع الشهداء، شهيد الدنيا وشهيد الآخرة وشهيد الدنيا والآخرة.

هذا ما استدل به من أقوال أهل العلم فقط ولا علاقة له بأي مما قفز إليه في تقريراته.

كما نقل بعض معاني لغوية من القاموس المحيط، ولسان العرب، والمعجم الوسيط، وبعض تخريجات لأحاديث وهذا قد يحسنه اليوم أي أحد وفي دقائق معدودة مع توفر شبكة الإنترنت والتطبيقات المتخصصة.

فالدكتور القرة داغي كتب كلاماً كثيراً حاول فيه تذويب معنى الشهادة الأصلي ضمن معاني كثيرة جداً -تخص المسلمين- لا غيرهم.

ثانياً: النقاش الموضوعي

ومن أعجب ما فعل الدكتور القرة داغي؛ هو تحكيم المعاني اللغوية المتعددة للفظ الشهادة على الاصطلاح الشرعي، والذي لا يخرج عن معنيين كما قال العلماء، يشملان كل ما ذكره من معاني.

“وإنه من عجيب كلام الفقهاء أن المصطلح يكون له من المعاني اللغوية ما يزيد على العشرة، ثمَّ يؤتى بالمعنى الاصطلاحي فتجد له صلة ومساسا بكل معنى من هذه المعاني اللغوية، فكل معنى من المعاني اللغوية يصلح أن يكون وثيق الصلة بالمعنى الاصطلاحي”. (يراجع معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية؛ د. محمود عبد الرحمن، الجزء الأول ص ٨).

وقد رأى بعض البسطاء والجهال والمتأثرون باللوثات العلمانية وغيرهم هذه الحشود فظنوها علماً وظنوها شرعاً وديناً وظنوها معجزة علمية في القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، فطاروا بها وراحوا يتشهدون ويترحمون ويستغفرون..

ومن ذلك مصطلح الاستشهاد والشهادة؛ فهو لغة: طلب الشهادة من الشهود، فيقال: استشهده إذا سأله تحمل أو أداء الشهادة، قال تعالى:. وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ. [سورة البقرة، الآية ٢٨٢]، و استعمل في القتل في سبيل اللّه، فيقال: استشهد: قتل في سبيل اللّه.

قال في «الطلبة»: و الاستشهاد أيضا طلب الشهادة وسؤالها، قال ﷺ في القرن الذي يفشو فيهم الكذب: «حتى إن أحدهم ليشهد قبل أن يستشهد». [أحمد (١/ ٢٦)]

وفي اصطلاح الفقهاء لا يخرج استعمالهم عن هذين المعنيين اللغويين. ويستعمل الفقهاء في الغالب لفظة إشهاد ويراد بها الاستشهاد على حق من الحقوق. «النهاية ٢/ ٥١٤، و طلبة الطلبة ص ٢٧٥، و الموسوعة الفقهية ٣/ ٣٢٠».

وكأن الدكتور داغي يكثر من حشد أنواع الشهداء، ومعاني لفظة الشهادة فقط لتذويب المصطلح الشرعي ودلالته المعنوية، والخلوص إلى نسبته للكافر بزعم دلالته اللفظية، وهذا من أشنع الاستدلالات لمن شم رائحة الأصول فضلاً عمن يرون أنفسهم أو يراهم البعض “مدرسة مقاصدية”!

فهو هنا يفكك المصطلح المحكم كما أراده الشارع واستقر في الأمة علماءها وعامتها كابراً عن كابر، وبكافة فرقها ومذاهبها؛ لصالح أصول مرادفاته اللغوية، وكأنه لا شرع أُحكِمَ ولا قرآنُ نزل!

وقد رأى بعض البسطاء والجهال والمتأثرون باللوثات العلمانية وغيرهم هذه الحشود فظنوها علماً وظنوها شرعاً وديناً وظنوها معجزة علمية في القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، فطاروا بها وراحوا يتشهدون ويترحمون ويستغفرون، حتى زعم بعضهم أن الكافر المتوفى في قضية أفضل من المسلم وأحق منه بالشهادة والرحمة!

وأرد على الدكتور القرة داغي بأن مفهوم الشهادة عند الموت بالاصطلاح الشرعي يرتبط بشهادة الدنيا والآخرة، فلا يجوز تعديته حينئذ بمفهوم فرعي -وإن صح لغة- إلى ما يُسمى “بشهيد الدنيا” فقط لئلا يعود على الاصطلاح الأصلي أو النص المؤسس “كما يسميه الشاطبي” بالمعارضة، وهو في معانيه اللغوية المتعددة إنما ينصرف لأحوال وفاة المسلم في البلاءات والمصائب وهو شهيد الآخرة فقط، وتعديته حينئذ إلى غيره من نحو “شهيد القضية” و “شهيد الوطن” ونحوها هو نحت جديد غير مسبوق ولا دليل عليه ويعود في الأذهان بالمعارضة للمعنى الأصلي.

والتعدية: في كلام الفقهاء هو: أن يعارض المعترض وصف المستدل الذي علل به إذا عداه إلى فرع مختلف فيه، بوصف آخر متعد إلى فرع آخر مختلف فيه أيضاً. فكأنه يقول إن ألزمتني موافقتك في هذا الفرع، فأنا ألزمك موافقتي في الفرع الآخر الذي تشمله علتي. معجم المصطلحات الشرعية: إثبات الحكم في غير المنصوص عليه بالعلة. انظر: الإحكام للآمدي، 101/4، بيان المختصر للأصفهاني، 226/3، تحرير المنقول للمرداوي، ص: 308.

وهنا نقول للدكتور القرة داغي: إذا أردت تعدية مفهوم مصطلح الشهادة المطلق -الذي قتل لتكون كلمة الله العليا- إلى غيره بتقييده كالذي قتل لتكون كلمة الوطن أو المبادئ، وطالما أنك تعد هذا الشهيد الكافر شهيداً في الدنيا فقط، فإننا نوافقكم بشرط أنه يجوز لنا أن نقيده أيضاً، فنقول: هو شهيد الوطن لا شهيد الآخرة؛ وشهيد القضية لا شهيد الجنة، لكي لا يختلط في الأذهان وينضبط المفهوم وهو المعنى الذي أردت، واستدللت فيه بكلام النووي على غير وجه أصلاً، وكلام الرجال ليس دليلاً ولكن إن جعلته كذلك فالزمه كما هو.

وإذا كنا لا نتساهل في إطلاق لفظ الشهيد على بعض مقاتلة الأمة الإسلامية إذا قتلوا في سبيل الله، حتى اشترط بعض العلماء قول: “نحسبه شهيداً” وذلك لحديث رسول الله ﷺ الذي قال أصحابه في بعض من قتلوا في المعركة: “هو شهيد”، فقال ﷺ: (كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة) صحيح مسلم

فكيف نتساهل في إطلاق اللفظ ولو مقيداً بالوطن والقضية ونحوها على الكافر!

والواقع والفعل أبلغ من القول كما أسلفنا، فقد رأينا من يقرأون الفاتحة للمتوفى الكافر، ويستغفرون ويترحمون ويقولون في جنة الخلد ونحو ذلك، بل فضلهم بعضهم على كل الخوارج والمتطرفين بزعمه لأنهم رفضوا هذا المهرجان الخليع من الترحم والاستغفار والاستشهاد، وربما صلى بعضهم صلاة جنازة وإن زعموا أنها عامة لشهداء الوطن!

وأما المعنى الثاني للاستشهاد وهو طلب الشهادة على شيء فإن السادة الفقهاء قد اتفقوا على عدم صحة شهادة الكافر للمسلم أو على المسلم، لا في السفر ولا في الحضر، لأن الكافر ليس أهلاً للشهادة، الحنفية والمالكية والشافعية. ابن رشد: بداية المجتهد (2 / 463)، وابن حزم: المحلى (9 / 405)، الكاساني: البدائع (6 / 266)، وحاشية الدسوقي (4 / 165)، والشافعي: الأم (7 / 16) والشربيني: مغني المحتاج (4 / 427)، وابن قدامة: المغني (9 / 182)، والشاشي القفال: حلية العلماء (8 / 428).

واستشهد الله ﷻ وأمرنا باستشهاد المؤمنين فقال: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ). [البقرة: 282]

وإن المشكلة مع أصحاب هذا النهج وهذه الفتاوى أن المنهج الإسلامي يقوم على حقيقة الاستعلاء، وهو أمر لا يفهمه المنبطحون أمام الآخرين ممن يدينون بدين الغرب القوي المتحضر كما وقر في روعهم..

إلا ما اختلف فيه بين العلماء كشهادة الكافر على وصية المسلم في السفر، قال في بداية المجتهد: وأما الإسلام فاتفقوا على أنه شرط في القبول، وأنه لا تجوز شهادة الكافر إلا ما اختلفوا فيه من جواز ذلك في الوصية والسفر، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ) الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [المائدة: 106 الْآيَةَ]، فقال أبو حنيفة: يجوز ذلك على الشروط التي ذكرها الله تعالى، وقال مالك والشافعي: لا يجوز ذلك، ورأوا أن الآية منسوخة. انتهى

أما الحنابلة والظاهرية فذهبوا إلى جواز قبول شهادة الكافر للمسلم أو على المسلم في الوصية عند فقد المسلم في السفر، واستدلوا على ذلك، بقوله تعالى: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) المائدة: 106 وهو الصحيح فقد قبل رسول الله ﷺ شهادة عدي بن بداء وتميم الداري على وصية السهمي وكانا نصرانيين. ولذلك فقول الظاهرية والحنابلة، والفعل أبلغ من القول. فإن لم تجز شهادة الكفار على المؤمنين في أي باب من أبواب الشهادة -سوى الوصية- أفتجوز على الله!

وإذا كانت العدالة شرطاً لقبول الشهادة، فالإسلام أساس العدالة، ولهذا فإن الله تعالى دائماً يضيف الشهود إلى المخاطبين من المؤمنين فيقول: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ). [الطلاق: 2]

وإن المشكلة مع أصحاب هذا النهج وهذه الفتاوى أن المنهج الإسلامي يقوم على حقيقة الاستعلاء، وهو أمر لا يفهمه المنبطحون أمام الآخرين ممن يدينون بدين الغرب القوي المتحضر كما وقر في روعهم، والذين بعدت بهم أزمانهم عن عزة المسلمين وقصر علمهم عن بلوغ مراميه العظيمة.

وإن بعض هؤلاء العلماء من نفس فئة الدكتور القرة داغي يفرقون بين الاستغفار والاسترحام لموتى الكفار، فأما الاستغفار فواضح بنص القرآن، قال تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ). [التوبة: 113]

وأظهر أقوال العلماء في عدم جواز طلب الرحمة لهم كذلك، فإنما تطلب المغفرة للرحمة لا لشيء آخر، والله تعالى قد أيئسهم من رحمته فقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَٰئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). [العنكبوت: ٢٣]

وعلى هذا جرى عمل الأولين في فهمهم لمسألة الترحم، فقد روى الطبري بإسناده قال: حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن عصمة بن زامل، عن أبيه قال: سمعت أبا هريرة يقول: رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمه، قلت: ولأبيه؟ قال: لا إن أبي مات وهو مشرك!

وإن الله تعالى يفعل ما يريد وما يشاء فهو يثيبهم في الدنيا أو يجعلهم في منزلة أقل من العذاب في الآخرة لأعمال صالحة فعلوها أو نصرة ظاهرة لرسول الله ﷺ نصروها، وهو ما استدل به الدكتور القرة داغي في كلام الإمام البيهقي، ولكن ذلك يرجع لله ولا علم لنا به، فطلب الرحمة منه لهم اعتداء للدليل، وفعله هو من مطلق الرحمة والمشيئة.

فالاسترحام للكافرين غير جائز كالاستغفار، وإن كفار قريش زعموا أنهم قد يقبلون القرآن إذا أنزل على رجل غير رسول الله ﷺ من القريتين -مكة والطائف- فأنزل الله فيهم: (أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا). فرحمة الله هي القرآن والإسلام فمنعها الله منهم، ولم يمنع منهم رحمته في معايشهم بالحياة الدنيا فدل على اقتصار الرحمة على ذلك.

وأخيراً: فإن أردتم الاسترحام للمتوفى الكافر، ألم تسألوا أنفسكم عن حكمة مشروعية صلاة الجنازة، أليست شرعت لطلب الرحمة للمتوفى، فلم لا تصلون الجنازة على “شهيد القضية” وهل الصلاة إلا الدعاء في أصلها اللغوي جرياً على نهج د. القرة داغي!

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل

كتبه د. خالد سعيد
١٤ شوال ١٤٤٣هجرية/ ١٥ مايو 2022م


التعليقات