تمر الأمة بأيام حالكة السواد، دماء وأشلاء في كل مكان، تجمعت علينا كل القوة الإمبريالية لتنتزع حب الدين من قلوبنا فتفقد عقولنا صوابها، والكنز الحقيقي الذي نمتلكه، فتبدأ هي في تحريك الجماهير كما تشاء، فتجعل أبناء جلدتك يكرهونك لا لشيء سوى تبنيك القضية ورفضك للانحلالات والخرافات والصورة المشوهة التي رسمها العدو لهم عن الدين، فتصبح غريباً عنهم. تتسع الهوة بينكم فتفقد القضية زخمها وتصبح محصورة في فئة معينة مضطهدة ومستغربة، لذلك كان لزاماً علينا أن نشرك الجماهير في القضية، وأن نخبرهم بحقيقة الصراع، لابد أن يعرف المواطن البسيط الذي أهلكته المشاكل الاقتصادية وبالكاد يملك قوت يومه أن قضيتنا ليست في واد ومشاكله في وادٍ آخر، فنحن نحارب النظام العالمي وحكامنا التابعين له؛ فهما السبب الرئيسي في ما نزل به، فلا خلاص من عيش الذل والظلم وسرقة المقدرات وضياع الأعمار إلا بإزالة ذلك النظام برمّته لا بتحسينه، لابد أن نملئ قلبه بحب الله ليعلم أن الدين هو طوق النجاة في الدنيا والأخرة، لابد أن يشعر بقيمته في الحياة وأنه صاحب رسالة وقادر على التغيير وأن الأمة تحتاجه، دورنا أن نعرف الناس بالله وأنه حرم علينا أن نسير على أي منهج في كل أمور الحياة إلا منهجه وشريعته، وعندما يتحول الجمهور المحايد إلى عنصر فعال مقاوم مدرك حقيقة الصراع وأبعاده نكون نجحنا في المهمة، وبعدها ستكون القضية تملكت من قلبه وأصبحت مركز حياته فيبدأ هو في ضم شرائح جديدة في صفوف الحق. فسلاح دعوة الجماهير استخدمه الداعون إلى الله وصلاح العباد والبلاد، واستخدمته أيضا الحكومة الجاهلية والطواغيت، وكان حائط الصد في وجه المحتل.
أهل الحق و الجماهير:
سيدنا موسى:
عندما ذهب نبي الله موسى وهارون لمخاطبة ومواجهة الطاغوت القابع على رأس السلطة الظالمة فرعون، فأصر على الكفر والعناد وطلب أن يجعل بينه وبينهم موعداً، قال سيدنا موسى: ” قَالَ مَوْعدكُمْ يَوْم الزّينَة وَأَنْ يُحْشَر النَّاس ضُحًى “
في اختيار سيدنا موسى ليوم الزينة عبرة لكل من يسير في طريق الحق وانتزاع السلطة من الطواغيت، فاختيار سيدنا موسى ليوم الزينة وطلبه أن يحشر الناس يدل على أهمية الجماهير وخطورة الخطاب الإعلامي، ويوم العيد وحشر الناس كان ليروا بأنفسهم المعجزات وليستقر في قلوبهم أن فرعون ليس بربهم وأنه طاغي ضال، وأن عليهم معرفة ربهم الحق وأن يواجهوا الطاغي بكل قوة وأن دعوته موجهة لهم وأن الله أرسله من أجلهم.
الغلام المؤمن:
و الأمر تكرر في قصة الغلام المؤمن فعندما فشل الملك وجنده في قتل الغلام المؤمن، قال الغلام للملك أنك لن تستطيع قتلي حتى تفعل ما أمرك، فقال الملك ما هو فقال:
“أن تجمع الناس في مكان واحد وتصلبني على جذع ثم تأخذ بسهم من كنانتي وتضع السهم في القوس وتقول: بسم الله رب الغلام، ثم أرمني، فإن فعلت ذلك قتلتني”
كان يعلم جيدا أنها ستكون نهاية حياته ولم يفكر في أنه المؤمن الوحيد وأن حياته الآن هي أهم شيء، فقرر أن يدعو الناس للحق وأن يبلغهم الرسالة بدمائه الطاهرة، فطلب حشدهم حتى يروا المعجزة بأعينهم فيقع في قلوبهم الإيمان، وهنا تتصور أنها نهاية مأساوية، مات الغلام المؤمن دون أن يرى ثمرة دعوته، دون أن يؤمن أي أحد، ولكن انتظر حتى ترى النتيجة، فكانت النتيجة على قدر التضحية وهي إيمان أصحاب الأخدود، الذين تعرضوا إلى فتنة عظيمة جداً فكان جنود الملك يخيرون الناس بين الكفر والإيمان،فإن أصروا على الإيمان ألقوهم في النار، فضحى المؤمنون تضحية كبيرة، فأخلد الله ذكرهم في القرآن. فموقف دعوة واحد زرع في قلوبهم حب القضية وثبات غير طبيعي.
الطواغيت والجماهير:
قصة سيدنا إبراهيم:
فلما قام أبا الأنبياء عليه السلام بهدم الأصنام إلا كبيرهم حتى يثبت لهم جهلهم وأنهم يتبعون أحجاراً،قال المشركون:“قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَىٰ أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ”، فأمروا بجمع الناس حتى يروا جزاء من يخرج عن منظومتهم ويخالفهم ويُفرد الوحدانية لله، لأنهم يدركون خطر الجماهير لو انخرطوا في الدفاع عن قضيتهم التي خلقوا من أجلها، جمعوهم حتى يروه وهو في النار حتى لا يفكر أحد في الخروج عن السياق، جمعوهم حتى يكونوا شركاء في الجريمة ويزرعوا في قلوبهم الكره لداعي لله بدعوة أنه ينكر ما كان عليه الآباء والأجداد.
فرعون:
ولم يغفل فرعون هو الأخر عن قوة الجماهير، فبالرغم من كونه طاغي يرى في نفسه الألوهية وقال لهم: ” مَا أرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ” إلا أنه حشدهم ووجه لهم الخطاب، عندما أراد التخلص من المؤمنين: “فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ. إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ. وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ. وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ.” وأنظر لفعله وللغة خطابه، فلم يكتفِ بجمعهم بل أشركهم في المشكلة وأنظر أيضاً لألفاظه المستخدمة ” لنا، جميع” حتى يتغلغل في قلوبهم كره المؤمنين وعداوتهم، ويشعروا أنهم شركاؤه في اتخاذ القرار فيقوموا بتأييد أي قرار ضدهم من قتل وتنكيل، ويكون شعورهم وقتها بالفخر ونصرة قضيتهم الباطلة.
دور الجماهير في مقاومة المحتل:
لما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر، كانت الجماهير واعية متيقظة ملتفة حول العلماء الحقيقيين، فخرجت الثورات من الأزهر بقيادة الشيخ عمر مكرم وغيره من الأفاضل، في الوقت الذي هرب فيه القادة من المواجهة تصدرت الجماهير المشهد ولم يهدأوا إلا بخروج المحتل الفرنسي يجر أذيال الخيبة.
لكن الحال تبدل تماماً بدخول المحتل الإنجليزي أرض مصر، فكان الشعب بعيد عن المقاومة الحقيقية وظهرت شعارات لا تمت للإسلام بصلة كالقومية، وتركوا الجهاد ولجأوا إلى الغرب الكافر ليحل قضاياهم، وصل المجتمع لحالة من الترهل والضمور والقبول بالمحتل والتفاوض على تحسين العبودية وكل هذا بسبب تصدر قادة كسعد زغلول ومحمد عبده والأفغاني وغيرهم فأشركوا الجماهير في قضية باطلة، فظل المستعمر الإنجليزي جاثم على بلادنا فترة طويلة ولم نرى تحركات كبيرة للتحرر كما حدث مع الفرنسيين. فتحيد الجماهير أو مشاركتهم في صفوف الباطل خسارة لأهل الحق.
طريقة مخاطبة الجماهير:
” وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ” أرسل الله الأنبياء لمخاطبة الناس ودعوتهم، ونحن ورثة الأنبياء وعلينا أن نسير على دربهم، فعلينا أن نخاطب الجماهير بما تفهمه عقولهم لا بما تفهمه عقولنا نحن، فربما شيء بديهي عندك، الجماهير لا تعرف عنه شيء أو لديها فكرة مغلوطة عنه، فلابد أن يكون الخطاب يلامس همومهم لا بمعزل عن واقعهم ولا يسفه من مشكلاتهم. ولا نعني بدعوة الناس بما تفهم عقولهم واستمالة قلوبهم أن ندلس أو نخفي عنهم حقيقة دعوتنا ولكن المقصود الترفق بعقولهم والتدرج في الشرح وتبسيط المعلومة، فأن استجابوا إلى دعوتنا نحمد الله على هدايتهم وإن لم يستجيبوا فلا تكلف إلا نفسك، فنحن ندعوهم ليهتدوا ويكونوا على بينة من أمرهم ونقيم الحجة عليهم.
كما أن دعوة الجماهير تحتاج إلى جهد وصبر فلا تيأس من قلة المهتدين “لأن يُهْدى بك رجلٌ واحدٌ خيرٌ لك من حمر النعم”، ولنا في قصة سيدنا نوح عبرة؛ “قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا (6) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا(7) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (9) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا”، هكذا كان حال سيدنا نوح في بيان الحق للناس، دعاهم بكل الطرق، في كل وقت، أعلن الحق وأسره إسراراً، كان نبي الله نوح يدعو المشركين دون توقف برغم تعنتهم وكرههم للحق فصبر على دعوته صبراً جميلاً، وظل ” عليه السلام” يدعو قومة ولم يهتدِ معه إلا القليل، فنحن مكلفون بالسعي ودعوة الناس أما النتائج فلا دخل لنا بها. فهداية الجماهير شيء يعينك في الطريق وعدمه لا يُوقِفك” كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ”.
وأخيرا:
فإن الجماهير كنز استراتيجي ولهم تأثير حقيقي في المعركة، وإن لم تجعل من الجماهير ساعد في بناء مشروعك، ستصبح الجماهير معول بيد أعدائك لهدم ذلك المشروع.
التعليقات