زمام المبادرة يختلف الأخذ به من فرد لآخر ، ومن مجموعة أو جماعة – وربما دولة – لأخرى ، وكذلك الطرق على الحديد ، فهناك من يبَاغَت على حين غرة ، ويفقد زمام المبادرة ، وتنتقل الأسبقية في الأقوال والأفعال لغيره ، وهناك من يمتلك الزمام ، فيحرك الأحداث ، ويقع في خانة “الفاعل” وليس “المفعول به” ، ويستطيع في ذات الوقت الطرقَ على الحديد وهو ساخن ، فيمتلك ” تليين ” مواقف خصم ، أو تحييده عن إطار صراع محدد مضطرم ، أو إزاحته بالكلية من معادلة هذا الصراع .
تمهيد لأهمية امتلاك زمام المبادرة والطرق على الحديد وهو ساخن :
تتضح بعض معالم تلك الأهمية من تدارس سريع لبعض الحالات التاريخية والحديثة ، التي ربما تُكسِبنا دراستُها القدرةَ على استشراف بعض الأحداث ، من خلال تشابه المعطيات ، أو تشابه بعض النماذج مع واقعنا المعاش .
في غزوة بدر :
امتلك المسلمون زمام المبادرة ، وحققوا عنصر المفاجأة ، سواء بالاتجاه أولا للسيطرة على قافلة قريش ، واسترداد بعض الحقوق التي سُلبِت من المهاجرين ، أم باتخاذ الموقع الأنسب في ميدان المعركة بجوار بئر بدر ، وامتلاكهم مصدر المياه الوحيد في الميدان ، ثم ازدادت نقاط السيطرة والضغط على الخصم بالمبارزة المبدئية التي أهلكت – بقوة الله – أربعة من صناديد قريش ، مما كان له أعمق الأثر سلبا في معنويات الخصوم ، وعكس ذلك في معنويات معسكر المؤمنين ، ثم كان النصر بعد ملحمة رائعة من بطولات الرعيل الأول من المهاجرين والأنصار ، بفضل الله تعالى ومنَّتِه .
حدث شبيه بذلك في أحد :
ولكن المسلمين فقدوا زمام المبادرة بعد معصيتهم أمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – من جهة ، ومن جهة أخرى تركهم الموقع الاستراتيجي بجبل الرماة ، والذي تمكن خالد بن الوليد – وكان ما يزال على الشرك – من خلاله افتعال ثغرة عظيمة في ميدان المعركة ، ومن ثم الالتفاف على المسلمين ومحاصرتهم ، وسحب الزمام منهم ، حتى انقلب سير الأحداث فعليا ، وانهزم المسلمون في هذا الجولة.
وبعد أحد بعام واحد :
امتلك المسلمون ناصية الحدث ، وساروا في ركب ” نازع للسلاح إلا الخفيف منه ” قاصدين العمرة ، مما أوقع القرشيين في أزمة طاحنة ، فكيف يردون محمدا – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه ، وقد ساقوا الهدي أمامهم قاصدين الشعيرة وعدم الحرب ، كيف يردونه حتى لا يؤثر المشهد سلبا في مكة من جهة ، وفي إفقاد الزعامة القرشية للحرم من جهة أخرى بهذا ” الدخول المفاجئ المشروع ” ؟!
وأُسقط فعلا في أيدي القرشيين ، وحدثت الحيرة ، ودارت الرءوس ، حتى أرسلوا ثلاثة وفود ، وأُجبِروا – واقعا – على صلح الحديبية ، مما كان له أعظم الأثر أيضا في الإمساك بزمام المبادرة في ناحية الدعوة ، وفتح الطريق لها في ظل الهدنة وتفرغ النبي – صلى الله عليه وسلم – بسبب السلم المؤقت ، وبعثه للرسل والرسائل ، حتى وصلت الدعوة خارج حدود الجزيرة العربية ، وانطلقت للعالمية في ظل هذه الهدنة ، ودخلت أعداد كبيرة في دين الله ، وظهر أثر تلك الأعداد جليا في فتح مكة ، واستطاع المسلمون التفرغ لليهود ناقضي العهود والمواثيق ، وتم إجلاؤهم من آخر حصونهم في المدينة ، وهو حصن خيبر المنيع .
وإن من الأمور المهمة التي ترتبت على ذلك الصلح أيضا إقبال بعض الشخصيات ذات الوزن الكبير على اعتناق دين الله – تعالى – بعد تلك المساحة التأملية التي أتاحها صلح الحديبية لهم ، وكان على رأسهم خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعثمان بن أبي طلحة .
وحديثا :
عاصر المسلمون امتلاك اليهود لزمام المبادرة في إنشاء وطن لهم على الأرض المقدسة ، وانتصارهم على مجموع الجيوش العربية في نكبة 48 ، ثم حدثت النكسة بامتلاك أبشع لذلك الزمام ، وهزيمة عدة جيوش في أيام قلائل معدودات ، وتمت السيطرة على سيناء والجولان وابتلاع بقية فلسطين ، بما في ذلك القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك ، وحتى مع امتلاك جزئي لزمام المبادرة في حرب 73 ، لم يستطع المسلمون استرداد الأقصى الأسير ، فقد سحب الزمام مرة أخرى – وسريعا – بعد ثغرة الدفرسوار ، وبدأت محادثات الكيلو 101 ، التي مهدت لوأد حراك استرداد الأرض المقدسة ، وبداية عهد جديد من التعايش مع الكيان الصهيوني – مع تغيير العقيدة القتالية أيضا – وكانت الطامة ببنود كامب ديفيد التي أعطت الكيان أعظم زمام للمبادرة في التطبيع والغزو الفكري والاقتصادي والسياسي للأمة ، ودشنت عصر التعايش – ليس مع الأنظمة – ولكن مع النخب وعموم الناس في أقطار الدول العربية ومنطقة ما يسمي بـ ” الشرق الأوسط ” .
ولما امتلك الشعب المصري زمام المبادرة في ثورة الخامس والعشرين من يناير :
استطاع إرباك النظام العسكري الشمولي المتجذر في مصر منذ عقود طويلة ، وتهدم جزء غير يسير من ذلك النظام ، وباعتراف قائد الانقلاب نفسه في لقاء له مع ضباطه حينما كان وزيرا للدفاع في 2012 م ، حيث صرح لهم بأن الدولة تفككت ويعاد تركيبها من جديد ( بسبب ثورة يناير ) .
ولكن بعد أقل من ثلاث سنوات من ثورة يناير استعاد العسكر زمام المبادرة ، وقاموا بانقلاب عسكري في الثالث من يوليو 2013 م ، واستطاعوا أن يبنوا أركانا جديدة لنظام أبشع وأكثر إجراما مما كان على عهد مبارك ، وكأنهم رفعوا الشعار ” عاد لينتقم ” ، وأصبحوا أكثر صراحة وجرأة في التقارب مع اليهود وكيانهم الصهيوني .
غُصَّة :
أن تصبح مقودا ، أو أن تفقد الزمام في واقع تعيشه وتؤثر فيه وتتأثر به ، لذو مرارة وغصة أليمة . فكيف وأنت صاحب قضية تمنحها أنفس ما عندك ، وتعطيها كل ما تستطيع من طاقتك ، وتوقف حياتك عليها !
لابد من إعادة هيكلة لمعطيات حراكك ، حتى تمتلك زمام المطلوب ، ومن ثم تبرهن على صدق قضيتك التي تحملها ، فتصبح حقيقة بديهية ، تأخذها عنك الأجيال ، وتعمل بها ، وتختلط بها مهجهم وعقولهم ، فلا ينفكون عنها ، ولا تنفك هي عنهم ، وتكون من لوازم حراكهم وخلجات صدورهم وما تلهج به ألسنتهم .
كان هذا تمهيدا سريعا لأهمية زمام المبادرة ، وضرورة الإمساك به ، والطرق على الحديد وهو ساخن .
في الحلقات القادمة – بإذن الله – نتناول : أهمية زمام المبادرة ، وما هي الأشياء التي يحتاجها المبادرون ليمسكوا بهذا الزمام ، ويقودوا واقعهم الذي يعيشونه ، ويساهموا بشكل فاعل وإيجابي في معادلة التغيير .
التعليقات