من كان يحارب لقضية فإنه لا يتركها لأي سبب كائنا ما كان ولا يفتر عنها ، ولا تغيب عن مخيلته بل تشغل كل كيانه، بخاصة إذا كانت القضية صراعا ضد باطل منتفش. وأي حديث وقتها عن ترك لهذ القضية فإنه يعد ضربا من خيانة معسكر الحق واصطفافا مع معسكر الباطل وتقوية له سواء قصد التارك أم لم يقصد.
النبي – صلى الله عيه وسلم – لم يترك الدعوة ولا ترك الجهاد – حاشاه – وهو في أحلك الظروف ، وفي أشد حالات الابتلاء والضيق، بل كان الناس أنفسهم يحْطِمُونه – عليه الصلاة والسلام – من كثرة ما يطلبون منه ويسألونه، فعندما سُئِلت عنه عائشة – رضي الله عنها – ” أكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يصلي وهو قاعد ؟ قالت: نعم ، بعدما حَطَمَه الناس” أي بعدما أثقلوا عليه من كثرة الأسئلة والمطالب ولم يكن – عليه الصلاة والسلام – يرد أحدا يجيب كل نداء.
فأنهك الناس قواه لما “حمله من أمورهم وأثقالهم والاعتناء بمصالحهم “، وهو في ظل كل ذلك الإنهاك والإرهاق كان لا يرضى القعود لحظة عن مدافعة الباطل ونصرة الحق أيا كانت العوائق والمدلهمات .
كان يغزو وليس معه ما يجهز الناس به، حتى في ” العسرة ” كانت تبوك ، وعانى المسلمون من شدة وضيق ذات اليد ومن قوة العدو وطول الطريق وقسوة الحر، وكانت جل الظروف أشد ما تكون قساوة على معسكر الحق وقتئذ .
وقد لاقى أصحابه – من قبل – ما لاقوه من تعذيب وعناد وتكبر من أهل مكة المشركين، حتى إن خباب بن الأرت – رضي الله عنه – جاءه يوما وهو متوسد بردة له – صلى الله عليه وسلم – في ظل الكعبة وصرخ قائلا : ” ألا تستنصر لنا ؟! ألا تدعو لنا ؟! فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ، فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون”.
فهو القائد المسؤول سيد المجاهدين والمدافعين عن الحق المواجهين للباطل، كان ُمثَبِّتا لأصحابه .. مبينا لهم سنن الله في سالكي هذا الطريق، موضحا لهم نماذج وقمما شامخة ممن كانوا قبلنا .. هؤلاء الذين كانوا السادة ،وكان الطغاة هم العبيد .. كانوا سادة في الحق مترفعين عن الاستسلام لوساوس الشياطين وملهيات الدنيا، وكان الطغاة عبيد الشياطين والجاه والمال والشهوات.. فكيف للسادة أن يترجلوا ويتركوا الساحة لعبيد الشهوات فينشروا فيها الفساد والطغيان ؟!
صاحب الحق لا يترك حقه ولو قُتل في سبيله ” من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، و من قتل دون مظلمته فهو شهيد ” فكيف إذا كان في الأصل صاحب قضية يرفع فيها لواء ” لا إله إلا الله ” و” من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ” ، ” ومن قتل دون دينه فهو شهيد ” .
صاحب الحق لا يترجل في وسط المعركة ، ولا يصالح الباطل ، ولا يلتقي معه في منتصف الطريق ، فكيف بمن يتسول من الباطل ” مصالحة ” بعد أن أراق الباطل الدماء وهتك الأعراض ونشر في الأرض الفساد ؟! إما أنه ليس صاحب حق أصلا .. أوأنه دخيل على أرض المعركة متشبع بثوبٍ زور.
أو أنه لا يدرك – أصالة – طبيعة الصراع أوأنه سئم الطريق وارتكس في حمأة المنتكسين .. أو أنه متميع يميل مع الكفة حيثما رجحت في نظره ، فإنه لا يتسول من الباطل إلا أهله وأتباعه الأذلاء ، أو المنتفعين منه، أو المرتعشين الذين تميلهم الصيحة حيث انتهى بهم صوتها !
صاحب الحق – إن كان صاحبه حقا – لا يترجل في وسط المعركة تاركا الميدان، ولا يهاب صيحات الباطل، ولا “يتعايش” معه، فالنقيضان لا يلتقيان والضدان لا يجتمعان .” وماذا بعد الحق إلا الضلال ” ؟!
التعليقات