من أهم قضايا الاتفاق المطلق بين الأمة.. أن التوحيد هو المضمون المنهجي للدعوة، ومن خلاله تتحدد كل قضايا الدعوة في الواقع. وفي الواقع فإن الحملة الصليبية هي أخطر الاتجاهات الجاهلية باعتبارها حملة الشرك وزعم الولد لله عز وجل.. فكانت مواجهة هذه الحملة أهم مقتضيات التوحيد. ومن البداية كانت الحرب الصليبية هي الحرب على الشريعة باعتبارها العروة التي تتبعها كل عرى الوجود الإسلامي الصحيح كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة» [صححه الألباني]. واليهود والنصارى هم من أوقد هذه الحرب، ولذلك قال الله سبحانه بعد مناقشة حكم الجاهلية :{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴿٥٠﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة المائدة: 50-51]. وأن تعاملهم مع الإسلام كان من خلال تجربة انحرافهم عن شرع الله، وكانت هذه المحاولة منذ البداية، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم. من أجل ذلك تتواصل الآيات لتبيين خطورة القضية من خلال كشف آثار ولاية اليهود والنصارى المحرفين للتوراة والإنجيل: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [سورة المائدة: 52]. فكان الخطر هو الردة عن الإسلام بعد الهزيمة النفسية أمامهم… فكانت ولايتهم.. والهزيمة النفسية أمامهم.. ثم الردة عن الإسلام.. هي الأهداف الثابتة لليهود والنصارى، التي يتم توظيفها في الحرب الصليبية حتى آخر وقت، لفصم عرى الأمة حتى تفقد هيمنتها ثم القضاء على الوجود الإسلامي بعد تجريده من أي قوة أو هيمنة. ومن هنا كانت الوحدة الموضوعية بين الحاكمية والحرب الصليبية أساساً عقديا لمواجهة تلك الحرب, والسياقات القرآنية دليل على تلك الوحدة:
– ففي سورة النساء جاءت أحكام الزواج واليتامى والمواريث والطلاق والمحرمات في الزواج، وبصورة أساسية أحكام المواريث التي تدور السورة كلها حولها، ومعها قضية المسيح: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴿١٧١﴾ لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ۚ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ﴿١٧٢﴾ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴿١٧٣﴾ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ﴿١٧٤﴾ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [سورة النساء: 171-175]. ثم بعد ذلك مباشرة قول الله عز وجل: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[سورة النساء: 176].
– وفي أول سورة الزمر كان الارتباط بين تنزيل الكتاب وعبودية الطاعة والدين الخالص وبين نفي الشريك والولد عن الله عز وجل: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴿١﴾ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ﴿٢﴾ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۚ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴿٣﴾ لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ سُبْحَانَهُ ۖ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}[سورة الزمر: 1-4]. وفي سورة الأنعام جاء قول الله عز وجل: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة الأنعام: 101]. ثم جاء بعدها: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ۚ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [سورة الأنعام: 114]. أما في سورة التوبة فجاء شرك الربوبية في الحكم وبعدها في نفس الآية شرك ادعاء الولد لله:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة: 31]. ويفسر هذه الآية هذا الحديث: عَدِيِّ بن حَاتِمٍ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: «يَا عَدِيُّ اطْرَحْ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ»، فَطَرَحْتُهُ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ بَرَاءَةٌ، فَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، فَقُلْتُ: “إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ”، فَقَالَ: «أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، فَتَسْتَحِلُّونَهُ؟»، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: «فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ» [السلسلة الصحيحة]. فجاء ذكر اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا بتحريم الحلال وتحليل الحرام مقترنا ببدعة زعم ألوهية المسيح. ويدل هذا الاقتران على المعنى الجامع بين قضية الحكم وقضية المسيح، وهو أن كلتا القضيتين موضوع واحد، وأن هذه الوحدة الموضوعية باقية حتى قيام الساعة، وفي ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا» [رواه البخاري ومسلم] – وفي رواية «حكما عدلا» [رواه البخاري].
وبعد هذا الإثبات يأتي المعنى المقابل لمحاولة أهل الكتاب تعطيل الشريعة وهو أمر أهل الكتاب بإقامة حكم الله. وهذا هو الذي يفسر لنا دعوة القرآن لأهل الكتاب إلى إقامة التوراة والإنجيل باعتبار أن هذه الدعوة هي البداية الواقعية في مواجهة التعطيل التاريخي لقضية الحاكمية عند أهل الكتاب، والذي كان سبباً في ضلالهم وتحريف كتابهم في الابتداء، وكان في الإنتهاء منطلقا لمحاولة إضلالهم للمسلمين عن كتابهم وشريعة ربهم والحقيقة القرآنية الثابتة أن مناقشة قضية الحاكمية تأتي دائماً في سياق مواجهة اليهود والنصارى.. كما أن مواجهة القرآن لليهود والنصارى تنطلق أساساً من قضية الحاكمية. وكنموذج لهذه الحقيقة.. تأتي آيات سورة المائدة: حيث يبين القرآن أن إقامة حكم الله المنزل في كتابه هي الحرز الأساسي من تحريف هذا الكتاب وهو معنى قول الله عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة: 44]. حيث يتبين من الآية أن تحكيم التوراة {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} كان أساس حفظها: {بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ}، ودليل ذلك هو تأويل قوله عز ذكره: {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ}: قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويحكم بالتوراة وأحكامها التي أنزل الله فيها في كل زمان -على ما أمر بالحكم به فيها- مع النبيين الذين أسلموا… {الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ}… و”الربانيون” جمع”رَبَّانيّ”، وهم العُلماء الحكماء البُصراء بسياسة الناس، وتدبير أمورهم، والقيام بمصالحهم (الحكم) , و”الأحبار”، هم العلماء.(الحفظ) ” (تفسير الطبري، 10 / 341). وقد كان الارتباط بين “تحكيم الكتاب” و”حفظ الكتاب” قاعدة قدرية تاريخية ليس لها إلا استثناء واحد، وهو حفظ القرآن الذي بقي حتى بعد تعطيل شريعته، ودليل ذلك قول سفيان بن عيينة في قول الله تبارك وتعالى: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ}، فجعل حفظه إليهم فضاع، وقال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فحفظه الله عز وجل علينا فلم يضع (تفسير القرطبي، 10 / 6). وتتواصل الآيات في تفصيل الأحكام الشرعية بالتعقيبات القرآنية المعروفة: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿٤٥﴾ وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ﴿٤٦﴾ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة المائدة: 45-48]. ثم يتكرر تحذير القرآن للرسول صلى الله عليه وسلم من فتنة أهل الكتاب عن الحكم بما أنزل الله:{وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴿٤٩﴾ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة: 49-50]. ثم تناقش الآيات ظاهرة النفاق باعتبارها الظاهرة المضادة للحاكمية والولاء والمحققة للتوافق مع اليهود والنصارى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﴿٥٢﴾ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ۙ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ ۚ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [سورة المائدة: 52-53]. والولاء الكامل لله والرسول والذين آمنوا هو أول ما تتطلبه مواجهة الحرب الصليبية لأن هذه الحرب يرتكز فيها الأعداء بصورة أساسية على أصحاب المسميات الإسلامية وهم على الكفر الصريح. مثل المحاربين للإسلام من العلمانيين الذين يمدون المحاربين من النصارى بالشبهات ويساندونهم بالمواقف والمؤتمرات والكتابات، ومن هنا جاء ذكر الصفات المطلوبة للمواجهة بصورة محددة واضحة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿٥٤﴾ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴿٥٥﴾ وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة المائدة: 54-56]. وتكشف الآيات جانبا أساسيا في واقع الحرب الصليبية والتنصير: وهو اتخاذ دين الإسلام هزوا ولعبا:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿٥٧﴾ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} [سورة المائدة: 57-58]. فالصليبيين لا يملكون أي إمكانية علمية جادة أمام هذا الدين المحكم، والدليل على ذلك هو اتخاذ النداء إلى الصلاة هزوا ولعبا، وكذلك جميع النسك وليس النداء إلى الصلاة فقط. ولكن اختصاص النداء إلى الصلاة في هذا السياق له معنى هام جدا وهو المناسبة بين الآذان وإقامة الأحكام الشرعية وهي أن كلا من الأمرين أساس في أحكام الديار ، فالدار التي تقيم الشريعة ويؤذن فيها للصلاة هي دار إسلام: عنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا غَشِيَ قَرْيَةً بَيَاتًا لَمْ يُغِرْ حَتَّى يُصْبِحَ فَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ تَأْذِينًا لِلصَّلَاةِ أَغَارَ [مسند أحمد – (27 / 46)]. وذلك باعتبار أن إقامة الشريعة والأذان معا دليل على إقامة الدين، وقد بلغ الارتباط بينهما أن لا يكون الأذان دون إقامة الشريعة دليلا على إقامة الدين، وتكشف الآيات العلة الأساسية لمحاولة أهل الكتاب تعطيل الشريعة الإسلامية هو إسقاط اعتبار الأمة: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [سورة المائدة: 68]. وأن هذا الحكم نافذ في كل الأمم ولذلك جاءت الآية التي بعدها لتؤكد حكم الله العام في جميع الأمم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ والصابئون وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون} [سورة المائدة: 69]. ولذلك لا يفكر النصارى في الحرب على الإسلام إلا بعد إسقاط اعتبار الأمة عند الله بتعطيل الشريعة وتبديلها. وكما ذكرت الآيات العلة في حرب أهل الكتاب للشريعة الإسلامية هى تعطيل التوراة والإنجيل, تذكر الآيات أيضا العلة من هذا التعطيل: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ۖ كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ﴿٧٠﴾ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [سورة المائدة: 70-71]. فكان نقض الميثاق مع الله وإتباع الهوى وتكذيب الرسل وقتلهم والعمى والصمم عن رؤية الحق وسماعه و هو علة تعطيلهم للتوراة والإنجيل؛ لأن نقض الميثاق هو نقض الحاكمية الذي كان بعده التحريف في الدين كما جاء في أول سورة المائدة: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:13]. وهكذا تصور الآيات الواقع الذي يكون فيه التحريف، ثم تذكر الآيات قضية المسيح باعتبارها أكبر قضايا التحريف: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۖ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۖ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ﴿٧٢﴾ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ۘ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۚ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿٧٣﴾ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿٧٤﴾ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} [سورة المائدة: 72-75]. وبعد إثبات الوحدة الموضوعية والتصور العقدي للعلاقة بين الحاكمية والحرب الصليبية يأتي التصور الحركي لتلك القضية.. حيث أصبح التحرك بقضية الشريعة والمناداة بالحاكمية هو أبرز ما يثير سعار الصليبية عالمياً ومحلياً، وباتت مواجهة التيارات الإسلامية تترتب من حيث الخطورة بناء على موقفها من قضية تحكيم الشريعة. والعناصر الأساسية التي تحكم التصور الحركي لهذه القضية هي: أن القاعدة السلفية في الدعوة: هي مواجهة قضايا الشرك بحسب ظهورها وحجمها في الواقع؛ لذا فإن الأمر يقتضي التناسب بين الحجم الذي أخذته بدعة “ادعاء الولد لله”، ومهمة القضاء عليها؛ لتصبح مواجهة هذه البدعة أهم وأخطر مهام الدعوة.. خصوصًا إذا كانت هذه البدعة تمثل المضمون العقدي لكل القوى السياسية العالمية المعادية للإسلام..!! لتعطي تلك المواجهة دافعا شعوريا قويا في مواجهة الحرب الصليبية كقضية عاطفية تمس شعور كل من ينتمي للإسلام، وبذلك تبلغ مواجهة الحملة الصليبية أعمق أبعاد الشعور الديني للأمة محققة بهذا العمق أوسع امتداد في واقعها، وأعلى درجات الوعي في التعامل مع الأمة.
التعليقات