الذرية

ثم تأتى الذرية فنجد أن البيت يعد أن يتكون – بتصور الحركة – يصبح بذاته منطلقا للتصور الحركي عن الذرية، فالذرية في بيت الدعوة ليست مجرد إحساس بالرغبة في التناسل؛ إذ إن الإحساس بالذرية في واقع الدعوة يأتى باعتبار أن هذه الذرية هي الاستمرار البشرى لواقع الدعوة، بما في هذا الاستمرار من إمكانية وطاقة، وهذا معنى ما جاء في تفسير قول الله عز وجل: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (الفرقان: 74) يعنى الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم وذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له.

والذرية تعتبر الرصيد الفطري الذي تقوم عليه الدعوة؛ ولهذا دعا نوح بهلاك القوم لما رأى هذا الرصيد الفطري يحترق..

قال ابن عباس: (يعنون من يعمل بالطاعة، فتقر أعينهم في الدنيا والآخرة).

وقال عكرمة: (لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمالا، ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين).

وقال الحسن البصري – وقد سئل عن هذه الآية -: (أن يرى الله العبد المسلم من زوجته، ومن أخيه، ومن حميمه طاعة الله، لا والله ما شي أقر لعين المسلم من أن يرى ولدا أو أخا أو حميما مطيعا لله عز وجل)؛ ولهذا نجد زكريا يصرح في دعائه لله عز وجل بالذرية بضرورة الاستمرار فيقول: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} (مريم: 5 – 6).

وكما ارتبطت قرة العين بالطاعة ارتبطت كذلك بالجهاد، وهذا نبي الله سليمان يرغب في إنجاب المائة فارس، حيث جاء في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سليمان قال: (لأطوفن الليلة على مائة امرأة تنجب كل واحدة فارسا يجاهد في سبيل الله) . ومن هنا كان قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون فيكم الرقوب؟ قال: قلنا الذي لا ولد له، قال: لا، ولكن الرقوب الذي لم يقدم من ولده شيئا) آي في سبيل الله.

وبهذا التعريف يكون ارتباط الرغبة في الذرية بالجهاد في سبيل الله، وليس أدل على الدعوة واستمرارها بالذرية من قصة التيه الذي كتبه الله على بنى إسرائيل؛ إذ إن المقصود من هذا الحكم كان إنهاء وجود الجيل الضعيف وإنشاء جيل قوى، وهو الذرية التي ولدت في التيه، والذين تم على أيديهم فتح بيت المقدس, كما جاء عن ابن كثير: (فلما انقضت المدة – آي مدة التيه – خرج بهم يوشع بن نون عليه السلام أو بمن بقى منهم وبسائر بنى إسرائيل من الجيل الثاني – يعنى الذرية القوية -)، وفى رواية ابن أبى حاتم: (فهلك كل من جاوز الأربعين سنة – يعنى الذرية الضعيفة -).

بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة إلا على لكع بن لكع) يعنى: كافر ابن كافر، وفيه دليل كفر الناس وذريتهم؛ إذ ينعدم الرصيد الفطري ويصير أولاد الدنيا كلها مثل أولاد نوح فتقوم الساعة.

والذرية تعتبر الرصيد الفطري الذي تقوم عليه الدعوة؛ ولهذا دعا نوح بهلاك القوم لما رأى هذا الرصيد الفطري يحترق، وقال نوح: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا)} (نوح: 26 – 27)، ولهذا أيضا لم يدع النبي صلى الله عليه وسلم على قومه لما كان عنده أمل في ذرية هؤلاء القوم، فعندما نزل ملك الجبال على الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف، وقال له: (مرني أن أطبق عليهم هذين الأخشبين)، فقال عليه الصلاة والسلام: (دعهم؛ فإني أرجو الله أن يخرج من ظهورهم من يعبده ولا يشرك به شيئا).

والأمل في الذرية الذي نؤكد من خلال موقف نوح والرسول صلى الله عليهما وسلم هو في الحقيقة أساس وجود الدين على الأرض؛ لأن بقاء الحياة الدنيا مرتبط بوجود الفطرة.

بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة إلا على لكع بن لكع) يعنى: كافر ابن كافر، وفيه دليل كفر الناس وذريتهم؛ إذ ينعدم الرصيد الفطري ويصير أولاد الدنيا كلها مثل أولاد نوح فتقوم الساعة.

وكلما طال عمر الإنسان في جاهليته كلما بعد عن الفطرة، وقل استعداده للالتزام بالحق والجهاد في سبيل الله؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (فصدقني الشباب وكذبني الشيوخ). وقال الله تعالى – عن قوم موسى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} (يونس: 83).

وهذه الظاهرة مرتبطة بحقيقة في النفس الإنسانية يحددها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (يكبر الإنسان ويكبر معه شيئان، المال والحياة)، ومما لاشك فيه أن حب المال وحب الحياة هما الداءان الأولان في معرفة الحق والالتزام به، وهذا ما يحتم على أصحاب الدعوة اعتبار فترة الطفولة والشباب فرصة أساسية في حياة الإنسان؛ ولهذا فرح المسلمون فرحا شديدا بمولد عبد الله بن الزبير – وهو أول مولود في المدينة بعد الهجرة – وذلك لأن اليهود وهي التي تعلم قيمة الذرية في الدعوة وأثر الآباء في الأبناء – هي التي حاولت بالسحر أن توقف الاستمرار البشرى للدعوة الإسلامية؛ ولهذا جاء في صحيح البخاري أنه لما ولد عبد الله بن الزبير وهو أول مولود ولد في المدينة فرح المسلمون فرحا شديدا لأنهم قيل لهم إن اليهود سحرتكم فلا يولد لكم، غير أنه لكي تكون الذرية امتدادا قويا للدعوة الإسلامية كان لابد من الربط بين أسس التربية الإنسانية وضرورات الدعوة، حتى تصبح هذه التربية تهيئة فعلية للممارسة الصحيحة لتلك الدعوة، والاستعداد لتحمل تكاليفها، ومن أجل الذرية تكون التربية.

ملاحظة: هذا النقل من كتاب بيت الدعوة للشيخ رفاعي سرور رحمه الله

التعليقات