معنى الحكمة

الحكمة من المفاهيم العميقة.. متعددة الجوانب، والأسلوب الصحيح في تعريف مثل هذه المفاهيم هو جمع النصوص التي تضمنته من كل جوانبه والخروج بتعريف محدد له من مجموع تلك النصوص لغة وشرعا.

الجانب الأول:

وفيه جاء تعريف ابن عباس للحكمة أنها: (معرفة القرآن ناسخه ومنسوخة ومحكمه ومتشابهة ومقدمة ومؤخرة وحلاله وحرامه، وأمثاله ـ وفي رواية تفسيره ـ فان القرآن قد قرأه البر و الفاجر)(1).

وعند الطبري: أن الحكمة هي: (العلم بأحكام الله تعالي التي لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعرفة بها، وما دل عليها ) وأنها (إصابة الحق بالعلم والعمل) (2).

ومن أجل الارتباط بين الحكمة وبين الحق والشرع صار التفكير فيما لا ينبغي وبما يخالف الشرائع إفراط في مفهوم الحكمة…

كما جاء في الحكمة ـ من هذا الجانب ـ قولهم :(الحكمة هي حجة العقل وفق أحكام الشريعة). والمعنى المأخوذ من هذه التعاريف أن الحكمة مفهوم منبثق عن أصل الشرع وأنها تعني إصابة الحق والالتزام به.

وعلى هذا فليست الحكمة كلاما من عند الناس ـ أو فلسفة بشرية بعيدة عن أصل الكتاب والسنة. ولذلك كان فهم ابن عباس للقرآن أثرا لدعاء النبي صلى الله عليه ومسلم له أن يعلمه الله الحكمة بدليل قول ابن عباس(3) الذي رواه (ضمني النبي صلى الله عليه وسلم إلي صدره وقال: اللهم علمه الحكمة)(4).

ولذلك رفض أحد الصحابة تعريفا للحياء ادعى صاحبه أنه حكمة بعد تعريف رسول الله صلى الله عليه وسلم (سمعت عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الحياء لا يأتي إلا بخير، فقال بشير بن كعب: مكتوب في الحكمة: أن من الحياء وقارا وأن من الحياء سكينة. فقال له عمران: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن صحيفتك)(5).

ومن أجل الارتباط بين الحكمة وبين الحق والشرع صار التفكير فيما لا ينبغي وبما يخالف الشرائع إفراط في مفهوم الحكمة حيث جاء في كتاب الكليات للبغوي (أن الإفراط في الحكمة هو استعمال الفكر فيما لا ينبغي كالمتشابهات وعلى وجه لا ينبغي كمخالفة الشرائع).

وبذلك يكون الارتباط بين مفهوم الحكمة وأصل الشرع والحق هو الجانب الأول من جوانب المفهوم.

الجانب الثاني:

وفيه جاء قول الله عز وجل: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ)(سورة البقرة الآية :269).

وهو دليل علي أن الحكمة إيتاء من الله عز وجل لمن يشاء من عباده.

ولذلك يقول ابن القيم: (والله تعالي أورث الحكمة آدم وبنيه فالرجل الكامل من له ميراث كامل من أبيه، ونصف الرجل ـ كالمرأة ـ له نصف ميراث، والتفاوت في ذلك لا يحصيه إلا الله تعالي وأكمل الخلق في هذه الرسل صلوات الله وسلامة عليهم وأكملهم أولوا العزم وأكملهم محمد صلى الله عليه وسلم)(6).

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه علي هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)(7)، وفيه دليل على أن الحكمة كذلك تكون بالتعلم.

كما جاء في هذا الجانب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا، الإيمان يماني والحكمة يمانية)(8) وفيه دليل علي ارتباط صفة الحكمة بالتكوين الإنساني من خلال صفات أخلاقية محددة.

والعلاقة بين الحكمة والإنسان من خلال قدر الله بإيتائها للأنسان واكتسابها بالتعلم والاستعداد بالطبع الأخلاقي هو الجانب الثاني من جوانب هذا المفهوم.

الجانب الثالث:

وفيه جاء تعريف الحكمة: بأنها العدل في القضاء.

كما جاء أنها التجربة، حيث جاء في تعريف الإمام الزبيدي: (قولهم رجل حكيم أي رجل أحكمته التجارب) وقد اتفق التفسير الشرعي مع المعنى اللغوي في هذين الأمرين حيث ورد في معنى الحكمة أنها القضاء لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)(9).

كما ورد أن الحكمة هي التجربة في قول رسول الله عليه وسلم (لا حليم إلا ذو عثره ولا حكيم إلا ذو تجربة)(10).

ثم يضاف إلي هذين الأمرين أمر ثالث وهو إجماع المفسرين على أن الحكمة هي السنة.

وبذلك تكون الحكمة قد جاءت بمعني القضاء و التجربة والسنة.

وبالنظر في هذه الأمور الثلاثة نجد أنها تتفق في أصل واحد وهو (الواقع).

  • حيث أن القضاء هو حكم في ـ (واقع) معلوم.
  • وأن التجربة هي حقيقة مستنبطة من (واقع) مشاهد.
  • وأن السنة هي (واقع) تطبيق القرآن.

وقد جاءت علاقة الحكمة بالواقع بصفة مباشرة في تعريف الحكمة مثل قولهم:

(هي العلم بحقائق الأشياء و العمل بمقتضاها)(11) وقولهم: أن الحكمة هي (علم بأحوال أعيان الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية)(12).

وارتباط الحكمة بالواقع هي الجانب الثالث من جوانب المفهوم.

الجانب الرابع:

وفيه جاء قول الله عز وجل: (حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ)(سورة القمر الآية: 5) وبالغة تعني أنها تبلغ منتهاها وغايتها.
كما جاء في تعريف الحكمة عن الحسن بن علي أنها: (الحق في المعني… والغاية في الإشارة).

وقد عرف ابن القيم الحكمة بما يؤكد معنى الغاية وذلك في قول الله (حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ) (سورة القمر الآية : 5) وقولة (وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)(سورة النساء : الآية : 113) وقولة (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيراً) ( سورة البقرة : الآية : 269) حيث قال:

(الحكمة هي العلم النافع و العمل الصالح وسمي الحكمة لأن العلم والعمل قد تعلقتا بمتعلقاتها وأوصلا إلي غايتها وكذلك لا يكون الكلام حكمة حيى يكون موصلا إلي الغايات المحمودة والمطالب النافعة فيكون مرشداً إلي العلم النافع والعمل الصالح فتحصل الغاية المطلوبة).

وواضح من التعريف علاقة مفهوم الحكمة بمعنى الغاية.

وارتباط مفهوم الحكمة بمعنى الغاية هو الجانب الأخر من جوانب المفهوم.

وبعد التحديد المجرد لجوانب مفهوم الحكمة من خلال علاقته بالشرع والإنسان والواقع والغاية يكون التعريف العام بها بعد ارتباطها بمفهوم الدعوة، أنها (حاسة الصواب الكامنة في كيان الداعية محددة له في واقع الدعوة سبيل الوصول إلي الغاية).

 

ملاحظة: هذا النقل من كتاب حكمة الدعوة للشيخ رفاعي سرور رحمه الله
————————-
(1) انظر تفسير ابن كثير (571/1) وتفسير الطبري (576/5).
(2) راجع التفسير للطبري (576/5) ففيه آثار بهذا المعنى.
(3) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة (100/7) من حديث عكرمة عن ابن عباس.
(4) ولذلك جاء في تفسير ابن كثير.
(5) متفق عليه: البخاري في الأدب (521/10)، ومسلم رقم (37) من حديث عمران بن حصين.
(6) والسفهاء جمع سفيه، كما أن الحكماء جمع حكيم، والسفيه: هو الجاهل الضعيف الرأي القليل بمواضع المصالح والمضار، ولهذا سمي الله النساء والصبيان سفهاء في قوله تعالي (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) قال عامه علماء السلف. هم النساء والصبيان.
(7) متفق عليه: البخاري في العلم (165/1)، ومسلم رقم (816) عن ابن مسعود.
(8) متفق عليه: البخاري في المغازي (99/8)، ومسلم رقم (52) في الإيمان عن أبي هريرة.
(9) مرّ قريبا وأوله: لا حسد إلا في اثنتين.
(10) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (26/2) وأحمد في مسنده (69/3)، والترميذى في البر والصلة رقم ( 2033) وقال(حسن غريب). والحاكم (293/2) وصححه ووافقه الذهبي! وابن حبان (208/1).
(11) تعريف الإمام الزبيدي في كتاب تاج العروس.
(12) تعريف صاحب النار.

التعليقات