قالت لي ابنتي: يا أبي.. هل كورونا عذاب من الله على الصينيين بسبب ما فعلوه بالمسلمين هناك؟
قلت لها: قد يكون كذلك.
قالت: فيهم نساء وأطفال لا ذنب لهم!
قلت: يا ابنتي.. هذا موضوع يطول شرحه؛ فهل أنتِ مستعدة لذلك؟
قالت: نعم؛ تفضل.
قلت: تعالي نقرأ قول الله عز وجل: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} ماذا قال بعدها؟ قال: {كَلَّا} وإذا ما قمنا بتبديل الكلمتين (أكرمن – أهانن) فوضعنا الأولى مكان الثانية والثانية مكان الأولى.. سيكون الجواب أيضًا: (كلا).
فالإنسان يا ابنتي يرغب بطبيعته في استشراف رضا الله عنه من عدمه، ويقيس ذلك بالعطاء أو المنع، ويجعل المال والصحة والأولاد والسلطان علامة رضا وإكرام، وفي المقابل يجعل الفقر والمرض والضعف والحرمان علامة سخط وإهانة! وهذا المقياس غير صحيح أبدًا؛ فالله عز وجل يعطى رضًا كما يعطي سخطًا! ويمنع رضًا كما يمنع سخطًا!
فقاطعتني المسكينة: أبي.. مش فاهمة حاجة!
قلت: يا حبيبتي.. الله يبتلي، يمتحن، يختبر؛ الله عز وجل خلق الإنسان ليبتليه ويدخله في امتحان، وهذا الامتحان يبدأ مع بداية وعيه وإدراكه وينتهي بموته.
وهذا الابتلاء يكون بالخير أحيانًا وبالشر أحيانًا أخرى، بالعطاء تارة وبالمنع تارة؛ وهكذا. قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} وقال سبحانه: {وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ}.
قالت: طيب، كويس، كده فهمت. ما علاقة هذا بالكورونا؟ وهل كورونا معنا أم علينا؟
قلت: صبرًا يا عجولة، صبرًا.
قوله تعالى (ونبلوكم) موجه للمؤمنين الذين يقرأون القرآن، وقوله (وبلوناهم) موجه للكفار، فيكتمل عندنا مما مضى أن الله يبتلي المؤمن بالخير وبالشر، كما يبتلي الكافر أيضًا بالخير وبالشر.
وإذا ذهبنا نتتبع الآيات والأحاديث في ذلك.. لطال المقام بنا، لكن اللبيب تكفيه الإشارة؛ ومن الإشارة أننا نجد بعض الأنبياء كانوا أصحاب عزِّ وملك وسلطان، وبعضهم -بل كثير منهم- أصحاب مرض وفقر ومطاردة، وبعضهم عاش مدة على حال ثم تحول للأخرى، وهم أشد الناس بلاء (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين). نفس الأمر ينطبق على المتجبرين من الكفار والمجرمين، وإن كان عامتهم أهل ملك وسلطان. والناس لا ينتبهون لابتلاء الخير إنما ينتبهون لابتلاء الشر فقط!
المصائب والبلايا العامة تكون بسبب الخطايا العامة، لكنها لا تقتصر على من وقعوا في هذه الخطايا؛ بل تطال معهم من عاينوا وقوعها فسكتوا عنها ولم ينكروها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “إنّ الناس إذا رأوا الظالم ثم لم يأخذوا على يديه؛ أوشك الله أن يعمّهم بعقاب منه”..
تعالي يا حبيبتي نطبق ذلك على (كورونا)
هل هو خير أم شر؟
قالت: شر طبعًا.
قلت: جميل، وما توصيفه؟
قالت: ابتلاء لأهل الأرض كلهم (مؤمنهم وكافرهم).
قلت: أحسنتِ. يعني ممكن يصيبنا نحن وغيرنا من المسلمين؛ لكن.. هل تعرفين ما سببه؟
وبعد برهة من التفكير، قالت: لا، لا أعرف يا أبي.
قلت: يا صغيرتي.. المصائب والبلايا العامة تكون بسبب الخطايا العامة، لكنها لا تقتصر على من وقعوا في هذه الخطايا؛ بل تطال معهم من عاينوا وقوعها فسكتوا عنها ولم ينكروها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “إنّ الناس إذا رأوا الظالم ثم لم يأخذوا على يديه؛ أوشك الله أن يعمّهم بعقاب منه”، وها هي الأرض تعج بالظلم والفجور والانحراف عن منهج الله جل وعلا، بل يحارَب الدين ويُعتدَى على الشرائع ويبارَز الله العظيم سبحانه بشتى أنواع الفسوق والعصيان، يقع ذلك من المسلمين كما يقع من الكافرين. فكان من الطبيعي أن يأتي بلاء عام يفزع منه أهل الفواحش والمنكرات، كما يفرق منه كل من رأى هذه الجرائم وسكت عنها (وإن لم يقترفها).
وبنظرة سريعة على كتاب الله تعالى وسنة النبي عليه الصلاة والسلام لعرفنا الداء ووجدنا الدواء. فمن ذلك قوله سبحانه: {وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وقوله: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} ومن أشد أنواع ذلك ما ورد في قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} حيث يعطيهم الله عز وجل كل ما يحلمون به حال ظلمهم وطغيانهم، ثم يأخذهم وهم غارقون في فرحهم بما أعطاهم جل وعلا؛ فلم يعلموا أن هذا العطاء كان مجرد استدراج، كما في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} وخلاصة ذلك في قوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} وفي قوله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ” والآيات والأحاديث في ذلك فوق الحصر.
ولعل آية في سورة مريم تدلنا على ما يدور عند بعض المخلوقات العظيمة بسبب عصياننا وجرأتنا على الله، وهي قوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} لماذا؟ {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} هذه الكلمة التي قال عنها سبحانه: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} فكيف بنا الآن يا ابنتي؟ والأمر لم يعد قاصرًا على ادعاء الولد لله سبحانه؛ بل وصل بنا الحال إلى أن كثيرًا من الناس ينكر وجود الله أصلًا، ويأبى أن يعترف بوجود خالق رازق مدبر لشؤون هذا الكون!! أفلا نستحق هذا البلاء والوباء؟!
قالت: نستحق يا أبي، نستحق؛ ولكن.. هذا الداء قد عرفناه، فأين الدواء إذن؟
قلت: طالما عرفنا أنه بلاء من العليم الحكيم يصيب المسلم والكافر، البر والفاجر.. فقد فهمنا الشق الأخطر والأهم في هذا الموضوع..
ويبقى أن ألخص لكِ الدواء فيما يلي:
أولا:
محاسبة النفس ومراجعة حالها وعباداتها وأخلاقها وسلوكياتها، للوقوف على حالة الخلل الموجودة داخل كل واحد منا؛ فلا يستطيع أحد إصلاح أي خلل قبل الوقوف على حقيقته.
ثانيا:
إحداث توبة عامة من الشرور والآثام التي من الممكن أن نكون وقعنا فيها ولم تظهر لنا مع الإكثار من الاستغفار، إضافة للتوبة الخاصة من الذنوب والمعاصي التي عرفناها من أنفسنا؛ قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فالله سبحانه يذيق عباده بعض آثار ذنوبهم حتى يرجعوا إليه، وقد ورد في الأثر (ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رُفِع إلا بتوبة).
ثالثا:
الإكثار من العبادات والطاعات كالصلاة والصدقة والذكر وقراءة القرآن، كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل عند حدوث كسوف للشمس أو خسوف للقمر، ووجه الشبه أنها آيات يخوف الله بها عبادَه.
رابعا:
الدعاء المستمر بصدق وإخلاص، أن يرفع الله هذا الوباء عن البلاد والعباد.
خامسا:
مع ما يملأ قلب المؤمن من اليقين في أن قدر الله كله خير.. لابد من الأخذ بالأسباب والالتزام بالتعليمات الصادرة من أهل الاختصاص، ومن ذلك أمر الحجر الصحي المفروض على المصابين أو المشتبه بهم، وفي ذلك توجيه نبوي واضح صريح «إِذَا وَقَعَ الطَّاعُونُ بِأَرْضٍ فَلا تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا مِنْهَا» وهذا يشبه الطاعون في كونه وباء عام سهل الانتشار.
سادسا:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ففي قصة أصحاب السبت كما وردت في سورة الأعراف قال سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}، فالآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر هم الناجون من هذا العقاب العام.
سابعا:
التزام النهج العام في حياة المؤمن حيث الشكر عند العافية والصبر عند المصيبة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ».
والله من وراء القصد.
التعليقات