فترجع قيمته إلي هذا الإحكام الذي يحمي طاقة الدعاة العملية من أن تتبدد في تجاوز الكلمة لحدودها، لأن نسبة الطاقة العملية والكلامية في الإنسان نسبة عكسية. وهذا معناه أن أي تجاوز للقدر الصحيح يترتب عليه مباشرة انحسار عملي في الواقع..
دليل التناسب العكسي بين الطاقة الكلامية والعملية
أما دليل التناسب العكسي بين الطاقة الكلامية والعملية في الإنسان هو هذا الموقف الذي كان فيه المسلمون على سفر فتلاحى رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فقال المهاجري يا للمهاجرين وقال الأنصاري يا للأنصار حتى كثر الكلام فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوقفه فسار بهم جميعاً و لم يعرس(1) حتى أصابهم التعب فتوقف الكلام فأمرهم أن يعسكروا بعد التعب فيقول أحد الصحابة وهو يصف الحال الذي كانوا عليه: (فما أن وجدنا مس الأرض حتى نمنا)(2) وبذلك أنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهره الكلام باستيعاب الطاقة، ولهذا يجب أن يكون الإحكام بين الكلمة والعمل أساساً في تحديد منهج الدعوة…. وتبليغ الحق ليس مجرد كلام و لكنه تصرف صحيح و تعامل سليم يتعامل به الدعاة مع الناس.
وهذا سليمان يدعو ملكة سبأ بموقفين عمليين دون دعوة مباشرة:
وكان الموقف الأول لإثبات صفة الذكاء وقوة العقل، فإنه أخذ العرش ونكره لها ثم عرضه عليها، و سألها: (أهكذا عرشك)؟ فأجابت: ( كأنه هو).. فكانت أعقل إجابة: فلم تقل هو، لأنه منكر ولم تقل: ليس هو، لأنه هو.
وكان الموقف الثاني لإسقاط الغرور عن نفسها: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ۗ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)( سورة النمل الآية:44).
وبإثبات الذكاء وإسقاط الغرور تمت الدعوة ودخلت في الإسلام.
وتحقيق الإحكام بين الكلمة والواقع يكون من خلال عدة أسس:
الأول: التركيز الأدبي في التبليغ
ويعني تحقيق أكبر تبليغ للحقائق بأبسط الأساليب بأن تسهم كل كلمة في هذا التبليغ في تأكيد وإثبات هذه الحقائق. ومن أجل هذه الصفة أعطى الله عز وجل نبينا عليه الصلاة والسلام جوامع الكلم (3).
ومثال لتوضيح تلك الصفة في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. هو قوله: (أن المقسطين على منابر من نور علي يمين عرش الرحمن يوم القيامة) (4). فتجد أن مضمون الحديث هو الإعلاء من شأن المقسطين ونجد أن كل ألفاظ الحديث قد ساهمت في تأكيد هذا المضمون بلا زيادة أو نقصان.
(فالمقسطون على منابر) أفادت معني التعظيم، (على منابر من نور) فزاد معني التعظيم (على يمين عرش الرحمن) زادت معنى التعظيم (يوم القيامة) زادت معني التعظيم.
ويدخل تحت صفة التركيز الأدبي؛ الأسلوب الاصطلاحي الذي يتم به التعبير عن المعاني الكثيرة بمفهوم واحد محدد مثال قول الرسول صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس عندما سألوه أن ينصحهم بنصحية يرجعون بها إلي قومهم فقال: (أن تؤمنوا بالله، ثم قال: أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: الإيمان هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداُ رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان……)(5).
الثاني: تحديد الأسلوب العملي لتطبيق أي حقيقة
وهذه أبرز خصائص الحديث النبوي، ومثاله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا)(6) وإلى هنا يقرر الرسول حقائق ثم يقول: أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) محدداً الأسلوب العملي لتحقيق الحقائق المقررة.
الثالث: رفض أي كلمة ليس لصاحبها واقع إيماني صحيح
ولذلك يرفض القرآن شهادة المنافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وذلك بقوله تعالى: (إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)(سورة المنافقون الآية :1). فالآية تؤكد رفض شهادة المنافقين من أجل واقعهم غير الصحيح.
ولما كان المرفوض ذاته قضية صحيحة وهي شهادة بالرسالة للرسول، فإن الآية تتضمن قبل رفضها من المنافقين لنفاقهم صحة هذه الشهادة في ذاتها و هي قول الله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ)، قبل قوله سبحانه: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)، فعندما تكون القضية هنا واحدة وهي الشهادة بالرسالة. فيؤكدها القرآن بذاتها. ويرفضها من المنافقين.
فإن هذا يثبت ارتباط قضية الدعوة بصفتها المجردة بالواقع الإيماني والعمل الصحيح لأصحاب الدعوة.
التعليقات