يقول ابن القيم في تعريف الحكمة (الحكمة حكمتان عملية وعلمية فالعلمية الاطلاع علي بواطن الأشياء ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها خلقاً وأمراً ، قدراً أو شرعاً)(1).
و حقيقة أن قيام الواقع الإسلامي يرجع في النهاية إلي قدر الله، بديهية يدركها كل داعية، ولكن هذا الإدراك غالباً ما يكون مجرد مبدأ نظري لا يؤثر في واقع الحركة من حيث تحديد المنهج أو أسلوب العمل.
والعلاقة بين الفكر والقدر يحددها من حيث الواقع عدة حقائق:
أن التفكير البشري مجرد سبب قد يحدث القدر بدونه وقد يحدث بما يخالفه. وهذا لوط عليه السلام يبحث بتفكيره عن ركن شديد فيقول: (أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)( سورة هود : الآية : 80) ، وهو بواقعة يأوي إلي ركن شديد .فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلي ركن شديد) (2).
وهذا معناه أن قدر الإيواء من الله له تحقق فيه دون تفكير مباشر منه. وقد يحدث بما يخالف هذا التفكير، بدليل قدر حدوث غزوة بدر بما يخالف التفكير في الاستيلاء علي القافلة (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ)(سورة الأنفال : الآية : 7).
بل قد يحدث القدر بما يضاد التفكير مباشرة. وهذا يونس عليه السلام… يفكر في الخلاص من القوم بالسفينة، فتكون هذه السفينة بقدر الله سبب هلاك، إذ يلقي منها في البحر فيلتقمه الحوت، وهو بتفكير البشر هلاك ليكون بقدر الله سبب نجاة.
من أجل ذلك فإن القرآن يعلمنا الإيمان بإطلاق القدر الإلهي ومحدودية التفكير البشري فيقول عز وجل: (فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ)(سورة المائدة الآية : 52). ردا علي المنافقين الذين لا يؤمنون بقدرة الله على تخليص المؤمنين من الاستضعاف أصلاً. و توجيها للمؤمنين الذين يؤمنون بقدرة الله علي ذلك، و لكنهم قد يحددون هذه القدرة بصورة واحدة وهي الفتح… فيقول الله: (أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ) (سورة المائدة الآية :52)، (وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (سورة الحج الآية : 41).
وقيام الواقع الإسلامي بصورته المادية هو في النهاية أمر غيبي لا يمكن للذهن البشري أن يحتويه (وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)(سورة هود الآية : 123، سورة النحل الآية : 77) وقد يفتن الفكر البشري بارتكازه على الأسس الشرعية أو النواميس الكونية… فيجزم بضرورة تحقيق النتيجة المحددة بهذه الأسس وتلك النواميس… ولكن القدر فوق الشرع وفوق الناموس.
وهذه حقيقة الحقائق وقمة اليقين التي تملأ قلب كل مسلم حقيقة أن رسول الله سيدخل الجنة، يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم حدوثها إلي الله فيقول ـــ كما في الصحيح ـــ (والله أني لرسول الله لا أدري ما يفعل بي ولا بكم) (3)… وأي محاولة احتواء ذهني لأمر غيبي هي تأله علي الله وتجاوز للحد البشري كما قدره الله.
وما سبق في تحديد العلاقة بين القدر الإلهي و الفكر البشري كان باعتبار تحقيق الواقع، ولكن من حيث تحديد المنهج أصلا فإن العلاقة تتحدد من خلال عدة أمور:
الأمر الأول:
أن التكاليف الشرعية هي التي تتضمن الأسباب القدرية لتحقيق الواقع… فإن الخطأ الشرعي في مجال الدعوة يعني استحالة أو تأخير تحقيق هذا الواقع. وليس لهذه القاعدة أي استثناء.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله اليهود عن الروح فيقول سأخبركم غداً، ولا يقول إن شاء الله. فلا ينزل الوحي. إلا بعد فترة. الرسول صلى الله عليه وسلم يحزن فيها حزناً شديداً، ويقول فيها اليهود: ذهب عنه شيطانه. ولما نزل الوحي بالإجابة، نزل ومعه تصحيح و تحديد السبب الذي من أجله تأخر النزول (4).
الأمر الثاني:
تحديد السنن القدرية الثابتة وذلك بنصوص الكتاب والسنة لتحقيق التوافق معها في مجال الحركة الإسلامية وقد وضح هذا التوافق وضوحاً كاملاً في التحرك الإسلامي الأول وبالتحديد في مجال القتال. حيث كان الأسلوب القتالي مرتبطاً بسنن إهلاك الكفار لتحقيق المعني القدري للقتال وهو أنه عذاب الله للكفار بأيدي المسلمين (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ)(سورة التوبة : 14). وهذه مقارنة سريعة بين سنن الإهلاك و أساليب القتال.
في فتح الطائف… حاصر الرسول الطائف ثلاثة أيام ولم تفتح له. فقال: سنرحل غداً، فأرادت الصحابة القتال. فتركهم يقاتلون فجرحوا جراحات شديدة . ولم تفتح لهم، فقال: سنرحل غداً إن شاء الله. وتم الرحيل. ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي عروة بن مسعود وهو مشرك من الطائف ودعاه إلي الإسلام فأسلم . فذهب إلي قومه فدعاهم إلي الإسلام فقتلوه . فقال عليه الصلاة والسلام “مثل عروة بن مسعود في قومه كمثل صاحب سورة ياسين وهو الذي قال الله فيه: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاء وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ 28 إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ)( سورة يس الآيتان: 28،29). وفتحت الطائف بعد قتل عروة بن مسعود”(5).
وفي فتح خيبر… قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر خربت خيبر. أنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين). توافقاً مع قوله الله: (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ 176 فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ)(سورة الصافات الآيتان : 176 ، 177).
وفي فتح مكة… يطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة أن يقولوا (حطة) (6) كما أمر الله بني إسرائيل أن يقولوها في دخول الأرض المقدسة كما جاء في قول الله: (وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ)(سورة البقرة الآية : 58). ولهذا قال الرسول بعد أن قالها الصحابة: (والله إنها الكلمة التي أمر بني إسرائيل أن يقولوها فلم يقولوها) .
وفي غزوة الأحزاب… علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله سينصره علي المشركين واليهود لما تحزبوا ضده وقال: (ابشروا معشر المسلمين) لأنهم بهذا التحزب حققوا سنة إهلاكهم، لأنه من أفعال الله أن يهزم الأحزاب. و لهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم و انصرنا عليهم) (7) و لهذا عبر القرآن عن الكافرين بعد إهلاكهم بقوله: (أُوْلَئِكَ الْأَحْزَابُ)(سورة ص الآية : 13).
وكان الغزو صباحاً من أهم الأساليب القتالية التي حققت التوافق بين القتال وسنن إهلاك الكافرين…. حتى أصبحت الخيل هي المغيرات صبحا كما جاء في قول الله تعالي: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا 1 فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا 2 فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا)(سورة العاديات الآيتان : 1ـ3).
والإصباح سنه إهلاك. بدليل قول الله في قوم لوط: (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ)(سورة هود الآية : 81). و قوله: (وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ)(سورة القمر الآية : 38). وقول الله: (فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ)( سورة الصافات الآية : 177).
الأمر الثالث:
في العلاقة بين الفكر البشري وقدر الله في تحديد منهج الدعوة فهو أن الاستدلال بالنصوص الإخبارية عما سيكون في آخر الزمان وأشراط الساعة، يكون باعتبار أنها ليست نصوص تكليفية و باعتبار أنها ليست سنن قدرية يلزم التوافق فيها و الحركة. بل إنها أقدار غيبية لا يلزمنا الاحتجاج بها. أما النصوص التكليفية فهي مدار هذا التأصيل.
الأمر الرابع:
في العلاقة بين الفكر البشري والقدر الإلهي في تحديد منهج الدعوة هو رفض التفكير البشري البحت الذي لا يقوم علي أصل شرعي أو سنة قدرية ثابتة، فهذا التفكير هو الذي سيتحول بالدعوة إلي حركة مادية، ويفقدها صفة الربانية، ولهذا نجد في واقع الدعوة الصحيح المواقف التي تؤكد صفة الربانية بصورة واضحة..
ففي الوقت الذي كان المسلمون فيه في أشد الحاجة إلي من يشاركهم قتال المشركين يرفض رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً مشركاً يريد القتال معه و يقول له: (ارجع فإني لا أستعين بمشرك) (8) وبالتفكير المادي في الموقف كان يمكن مشاركة هذا الرجل.
ويأتي رجل آخر إلي الرسول و يقول أقاتل أو أسلم فيمنعه الرسول من القتال معه و يقول له: (بل أسلم ثم قاتل) (9) فبايع وقاتل فقتل، فقال عليه الصلاة و السلام: (عمل قليلا و أجر كثيرا) . وبالتفكير المادي في المواقف كان يمكن تأجيل البيعة لأن القتال دائر.
وفي وقت القتال تقام صلاة الحرب لتصلي جماعة من المسلمين وتحميها الأخرى. وبالتفكير المادي كان يمكن تأجيل الصلاة حتى لا يضيع الوقت و إمكانيات القتال.
وفي القتال يرفع السيف عن كل من قال لا إله إلا الله، وهذا سؤال يسأله صحابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: عن المقداد بن الأسود أنه أخبر أنه قال: يا رسول الله، أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذمني بشجرة فقال أسلمت لله، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتله. قال فقلت: يا رسول الله، إنه قد قطع يدي، ثم قال ذلك بعد أن قطعها، أفأقتله؟ قال رسول الله: (لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال) (10).
ويدخل الدعاء كأقوى أسلحة القتال، ففي غزوة الأحزاب. ينظم الرسول كل أموره ويعد كل عدته ثم يقول: (إن من عباد الله من لو أقسم علي الله لأبره أدع الله يا براء أن يهزمهم و ينصرنا عليهم)(11).
ثم يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان البشر يحققون أهدافهم بقوتهم وإمكانياتهم المادية فلسنا مثلهم، فيقول: (إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم) (12).
لأنها دعوة ربانية… تقوم بالقدر ولها أسباب وسنن (13).
التعليقات