بين الصيام والذِّكر في أيام العشر

عندما تدخل أيام العشر من ذي الحجة يتواصى المسلمون فيما بينهم بصيام هذه الأيام، وقد يصل الأمر لدرجة الإنكار على من يُقَصِّر في صيامها!!

أفضل الصيام بعد رمضان هو صوم شهر الله المحرم كما في صحيح مسلم، وكان أكثر صيام النبي عليه الصلاة والسلام في شهر شعبان

ورغم أن الصيام عمل صالح -بل عمل عظيم- فإن الصحيح عدم الغلو فيه في هذه الأيام، حيث إن الصيام المفروض على المسلم هو صيام شهر رمضان فقط، وليس ثمة صيام آخر مفروض إلا ما نذره العبد، فيكون هو الذي فرضه على نفسه، أو ما يُفرض عرَضًا كصيام الكفارات.

ومن هنا يثبت أن الصيام في هذه الأيام لا يعدو كونه مستحبا فقط، وما كان هذا شأنه فلا يجوز الإنكار فيه، لأن العبد بطبيعة الحال يجتهد في بعض المستحبات ويقصر في غيرها، بل إن مجمل النصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن هناك من الصيام المستحب ما يفوق الصيام في أيام العشر من ذي الحجة.

فأفضل الصيام بعد رمضان هو صوم شهر الله المحرم كما في صحيح مسلم، وكان أكثر صيام النبي عليه الصلاة والسلام في شهر شعبان، وقد علل ذلك بغفلة الناس عنه بين رجب ورمضان، بما يعني أن الصحابة كانوا يكثرون من الصيام في رجب. فينتج عندنا تقديم الصيام في محرم وشعبان ورجب على غيرها من الشهور.

أعظم الأعمال في هذه الأيام هو ذكر الله تعالى -بل الجهر به- كما كان حال أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام

وبالتالي.. فإن صح الحديث الوارد في شأن صيام أيام العشر، وبالجمع بينه وبين حديث عائشة رضي الله عنها أنها ما رأت رسول الله صائما العشر قط.. يثبت عندنا فضيلة الصيام في هذه الأيام كعمل من جملة العمل الصالح وليس انفرادا ولا تميزا عن غيره.

وهنا لابد أن أؤكد على فضيلة الصيام حتى لا يُفهم كلامي على غير معناه، فالصائم عموما مأجور على صيامه الذي هو لله والله يجزي به. ويضاف إلى ذلك التعبد لله بتناول السحور، بل حتى الإفطار نفسه يؤجر عليه العبد، والغالب على الصائم أنه محافظٌ على تجديد وضوئه كلما انتقض، ضابطٌ للسانه فلا يفسق ولا يرفث ولا يسب ولا يفحش، غاضٌّ لبصره غير متتبع للعورات، مكثر من القرآن والذِّكر والدعاء. وهذه عبادات أخرى تُضاف إلى الصيام نفسه فيزداد أجر العامل في هذه الأيام. مع التأكيد على عدم الإنكار على من لا يصومها.

وفي المقابل.. نجد أن أعظم الأعمال في هذه الأيام هو ذكر الله تعالى -بل الجهر به- كما كان حال أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فقد ذكر البخاري معلقا بصيغة الجزم: (كان ابن عمر وأبو هريرة -رضي الله عنهما- يخرجان إلى السُّوقِ في أَيام العشْر يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ الناس بِتَكْبِيرِهِمَا)، كما ورد الذكر في هذه الأيام بشكل واضح في القرآن الكريم، في قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} قال ابن عباس: الأيام المعلومات هي العشر الأُوَل من شهر ذي الحجة.

الاهتمام بالذّكر ينبغي أن يكون مقدََّّمًا على غيره من العبادات في أيام العشر، ثم يأتي بعد الصيام ونوافل الصلوات والصدقة والبر وصلة الأرحام إلى غير ذلك مما يندرج تحت وصف العبادة

كما ورد في بعض روايات الحديث الذي بيّن فضل العمل الصالح في هذه الأيام ما يدل على أن الذكر هو أفضل هذه الأعمال، وهو في مسند الإمام أحمد بلفظ: “مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ”.

فنخلص مما مضى إلى أن الاهتمام بالذّكر ينبغي أن يكون مقدََّّمًا على غيره من العبادات في أيام العشر، ثم يأتي بعد الصيام ونوافل الصلوات والصدقة والبر وصلة الأرحام إلى غير ذلك مما يندرج تحت وصف العبادة، وحبذا الجمع بين ما يمكن جمعه من هذه الأعمال العظيمة. مع الاهتمام بالأضحية في اليوم العاشر أو في أيام التشريق، وبالطبع يستمر الذكر ويضاف إليه التكبير دبر الصلوات خلال أيام التشريق.

أما بالنسبة لما ورد في شأن الذكر وفضله عموما.. فهو أكثر مما يُحصى وأعظم من أن يُحصر، لكن اللبيب تكفيه الإشارة، حيث إن عموم المسلمين يحفظون كثيرا من الآيات والأحاديث الواردة في شأن الذكر، إنما فقط يحتاجون للفت الأنظار والتذكير العام بأهمية الذّكر في حياة العبد، ويكفي الذاكر فضلا وشرفا أن يكون مذكورا من الله جل جلاله في السماوات العلا، وأن يُثنَى عليه في الملأ الأعلى وسط الملائكة.

المهم أن يرتب المسلم جدوله في هذه الأيام، واضعا الذكر في صدارة أولوياته، حريصا على أن يسقى من معينه الذي لا ينضب، وأن ينهل من خزائنه التي لا تنفد

ومما ينبغي علمه في هذا المقام.. أن واحة الذِّكر ممتلئة بالأشجار وفيرة الثمار، وأن ساحة الذكر فسيحة واسعة بحيث يرتع العبد في جنباتها ولا يستطيع بلوغ نهايتها. ففيها التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والحوقلة بشكل مطلق غير محدود بزمان ولا مكان، وفيها أذكار الصباح والمساء، والنوم والاستيقاظ والجِماع، والخروج من المنزل والدخول إليه، وأذكار دخول الخلاء والخروج منه، إلى غير ذلك مما يجده المسلم مبسوطا في كتيب صغير الحجم ثقيل الوزن عظيم الفائدة اسمه (حصن المسلم). ويُضاف إلى ذلك كله قراءة القرآن الذي هو أعظم الذكر، كذلك الدعاء والتبتل والتذلل والسؤال والطلب من الله. وأيضا لابد من الصلاة على رسول الله لئلا يوصف العبد بالبخل، ولتحصيل الخيرات والبركات والرحمات. وإذا وضعنا الاستغفار في هذه القائمة الكبيرة لوجدناه وحده جنَّةً غَنَّاء ممتلئة لا يستغني العبد عنها أبدا.

ومن جهة أخرى.. يسوغ الإنكار على المعرض عن ذكر الله في الجملة، حيث ظاهر النصوص يقتضي ذلك، كقوله تعالى: {ولا تكن من الغافلين} وقوله: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} وقوله: {استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله} إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي تذم المعرض عن ذكر الله.

المهم أن يرتب المسلم جدوله في هذه الأيام، واضعا الذكر في صدارة أولوياته، حريصا على أن يسقى من معينه الذي لا ينضب، وأن ينهل من خزائنه التي لا تنفد ذاكرا نصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله عن شيء يتشبث به عند كثرة الشرائع عليه، حيث قال له: “لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله”، مستعينا بالله عز وجل دائما، قائلا: “اللهم أَعِنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك”

والله من وراء القصد


التعليقات