الإيمان بالكتب المنزلة على الأنبياء والمرسلين ركن من أركان الإيمان الستة، فعندما سأل جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، قال: “أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ“ وقد أمر الله تعالى به أمرا صريحًا في سورة النساء “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ” قال السعدي في تفسير هذه الآية: أَمَر هنا بالإيمان به وبرسوله، وبالقرآن وبالكتب المتقدمة، فهذا كله من الإيمان الواجب الذي لا يكون العبد مؤمنا إلا به. اهـ وفي سورة البقرة “قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ” وقريب منها في آل عمران، ورغم ذلك هجر كثير المسلمين تَعَلُّمَه وتعليمَه، فأردت هنا أن ألقي حجرا في الماء الراكد، عسى أن يستنهض الهمم لوضع هذا الركن في منزلته اللائقة به كتابةً وتدريسًا.
والحديث عن الكُتُب مرتبط ارتباطا وثيقا بالحديث عن الرسل -بل- ومتداخل معه أيضًا، لذلك جمعهما الدكتور عمر الأشقر في كتاب واحد ضمن سلسلته في العقيدة سمَّاه الرسل والرسالات (أطال فيه النَّفَسَ في حديثه عن الرسل، لكن.. مع الأسف خرج الكلام فيه عن الكتب قاصرًا ناقصًا!!)، وقد كتبتُ هنا مقالا عن كون رسالة الأنبياء جميعا متفقة في اسمها وأصولها بعنوان الدين واحد والرَّبُّ واحد؛ وبسبب تجدد جاهليات تُشْبه الجاهلية التي واجهها الأنبياء والمرسلون.. كثر الحديث -مكتوبا ومسموعا ومرئيا- عن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم جميعا. وهو ما لم يحدث في شأن الكتب المنزلة من عند الله، لذلك جعلت الحديث عنه تحت عنوان: أركان الإيمان المهجورة، وقد كتبت قبله مباشرة مقالين عن الملائكة الكرام، الأول هنا والثاني هنا.
وقد أخبرنا الله تعالى بأنه أنزل على أنبيائه ورسله كُتُبًا، فقال سبحانه في سورة البقرة: “كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ“، وقال جل وعلا في سورة الحديد: “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ”، وذكر بعضهم نَصًّا، فقال: “فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ“، وقال: “وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ”، وقال: “وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا“ وَالزَّبُورُ: اسم الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود عليه السلام (كما في تفسير ابن كثير)، وقال سبحانه:“يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ“، وقال: “وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ“، وسمَّى بعضها صحفًا، كما في قوله: “إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى”.
وقال تبارك وتعالى عن آخر الكتب (القرآن الكريم) الذي أنزله على خاتم الأنبياء والمرسلين (محمد عليه أفضل الصلوات وأتَمُّ التسليم): “اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ“، “إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا“، “إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ“، “إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ“. لاحظ في هذه الآيات تكرار كلمة “بالحق”، وبخصوصها قال صاحب المنار: ومعنى تنزيله بالحق: أن فيه ما يحقق أنه من عند الله تعالى، فلا يحتاج إلى دليل من غيره على حَقِّيَّتِه. أو معناه: أن كل ما جاء به من العقائد والأخبار والأحكام والحُكْم حقٌّ، وقد يوصف الحُكْمُ بكونه حقًّا في نفسه إذا كانت المصلحة والفائدة تتحقق به.
وقد بين جل وعلا اشتمال هذه الكتب على الهدى والخير والصلاح، وأن حال البشرية بدونها هو الضلال والبؤس والشقاء، فقال سبحانه: “إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ“ وقال: “وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ“ وقال: “وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ” وقال: “وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ“، ومضت سُنَّة الله في خلقه أن من اتبع كُتُبَه وسار على نهجها اهتدى ونجى، وأن من جحدها وانصرف عن هداها انحرف وهلك “فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى“. ولم يكتفِ المنحرفون بالإعراض عن كُتُبهم وكلام ربهم، بل وصل الضلال الذي تمكن وتغلغل في الأمم السابقة أن امتدت أيديهم عبثا وتحريفا وتبديلا لكلام الله الذي أكرمهم وأنعم عليهم به!!
وإذا كان الله تبارك وتعالى قد أنزل الكتب لتلاوتها وحفظها والعمل بما فيها.. فإنه لا يجوز التغافل عن أمر التحاكم إليها في الدماء والأعراض والأموال وكل ما يختلف الناس فيه في هذه الحياة الدنيا، قال تعالى: “إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ“، وقال: “وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ“.
وقال عن القرآن: “وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ”، فالقرآن هو الناسخ للكتب السابقة، وهو دستور الحُكْم الذي لا يجوز لمسلم أن يخرج عنه في صغيرة ولا كبيرة “وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ“، وهو الشريعة الرَّبَّانية التي لا يقابلها إلا أهواء الجُهَّال والعابثين “ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ“ بل وإيحاءات الشياطين “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ“.
وبدون ذلك لا يكون أصحاب الكتب على شيء أصلا “قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ“، ومثلهم المنافقون الذين يزعمون أنهم مؤمنون بالقرآن، ففي سورة النساء: “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا“، وفي سورة النور: “وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ“، ومثل هذا الخطاب كثير في القرآن.
وإذا كان هذا حال من يرفض التحاكم إلى كتاب الله جل وعلا.. فحال العلماء الذين يكتمون هذه الأحكام ويسترونها بئيسة هي الأخرى، حيث قال تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ“، هذا إذا كان سبب السكوت هو مجرد الخوف، فإذا كان في مقابل ذلك مال أو منصب أو رشوة أو غيره، فيكون العقاب كما في قوله: “إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ“. ومن هنا يظهر أن سبب الشقاء والضنك الذي تعيشه البشرية حاليا هو اتفاق قادة بلاد الكفر مع الخونة الذين يحكمون بلادنا على الإعراض عن كتاب الله عز وجل، في ظل تواطئ المحسوبين على العلم عندنا، وأن الخلاص والنجاة، والفلاح والنجاح لن يكون إلا بالعودة إليه (فهما وعملا وتحاكما).
والله من وراء القصد.
التعليقات