من نافلة القول التذكير بأهمية التعرف على الملائكة وصفاتهم وقدراتهم وأعمالهم، فهو ليس مجرد أمر تثقيفي أو تكميلي، بل هو أصل من أصول الاعتقاد، لا يتم الإيمان إلا به، قال تعالى: “لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ“، وفي حديث جبريل الشهير، قال صلى الله عليه وسلم: “الإِيمَانُ أنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ وَاليَوْمِ الآخِر، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرَّهِ“؛ ورغم ذلك حصل نوع قصور في التعاطي مع هذا الركن، مما أدى لوجود خلل كبير عند جماهير المسلمين فيما يتعلق بالملائكة الكرام الأبرار.
ومهما حاولت هنا تلخيص الأمر فلن أتمكن من طرق كل أبوابه، لذا أحاول -مستعينا بالله- أن آتي على أهم ما نحتاج إليه في عصرنا، وما له مسيس مباشر بأحوالنا، وأحيل القارئ الكريم الذي يبتغي التوسع والتفصيل على كتاب لطيف بعنوان “عالم الملائكة الأبرار” للدكتور عمر سليمان الأشقر رحمه الله، الذي قال في مقدمته: الملائكة عالَمٌ غير عالمِ الإنس وعالمِ الجن، وهو عالَمٌ كريم، كله طُهر وصفاء ونقاء، وهم كرام أتقياء، يعبدون الله حق العبادة، ويقومون بتنفيذ ما يأمرهم به، ولا يعصون الله أبدًا. اهـ
وأجمل السيوطي كيفية الإيمان بالملائكة، فقال في كتاب “الحبائك في أخبار الملائك”: الإيمان بالملائكة ينتظم في معانٍ: التصديق بوجودهم، إنزالهم منازلهم، وإثبات أنهم عباد الله وخلقه، كالإنس والجن مأمورون مكلفون، لا يقدرون إلا على ما أقدرهم الله عليه، والموت عليهم جائز، ولا يوصفون بشيء يؤدي وصفهم به إلى إشراكهم بالله تعالى. والاعتراف بأنّ منهم رسلا يرسلهم الله إلى من يشاء من البشر، ويتبع ذلك الاعتراف بأنّ منهم حملة العرش، ومنهم الصافّون، ومنهم خزَنَة الجنّة وخزَنَة النار، ومنهم كَتَبَة الأعمال، ومنهم الذين يسوقون السحاب، فقد ورد القرآن بذلك كله أو بأكثره. اهـ بتصرف يسير.
وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان: وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة، وأنها موكلة بأصناف المخلوقات، وأنه سبحانه وكَّل بالجبال ملائكة، ووكَّل بالسحاب والمطر ملائكة، ووكَّل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها، ثم وكَّل بالعبد ملائكة لحفظه وملائكة لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته، ووكَّل بالموت ملائكة ووكل بالسؤال في القبر ملائكة، ووكَّل بالأفلاك ملائكة يحركونها ووكَّل بالشمس والقمر ملائكة، ووكَّل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة، ووكَّل بالجنة وعمارتها وغراسها وعمل الأنهار فيها ملائكة.
ثم قال: فالملائكة أعظم جنود الله تعالى، ومنهم المرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرًا، ومنهم النازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرًا، ومنهم الصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرًا، ومنهم ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وملائكة قد وُكِّلوا بحمل العرش، وملائكة قد وُكِّلوا بعمارة السماوات بالصلاة والتسبيح والتقديس، إلى غير ذلك من أصناف الملائكة التي لا يحصيها إلا الله تعالى. اهـ
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: الملائكة أجسام لطيفة أُعْطِيَتْ قدرة على التشكل بأشكال مختلفة ومسكنها السماوات، وقد جاء في صفة الملائكة وكثرتهم أحاديث: منها ما أخرجه مسلم عن عائشة مرفوعا: “خلقت الملائكة من نور”، ومنها ما أخرجه الترمذي وابن ماجة والبزار من حديث أبي ذر مرفوعا: “أَطَّت السماء وحق لها أن تَئِطَّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وعليه ملك ساجد”، ومنها ما أخرجه الطبراني من حديث جابر مرفوعا: “ما في السماوات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كَفٍّ إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد”. وذُكر عن سعيد بن المسيب قال: الملائكة ليسوا ذكورا ولا إناثا ولا يأكلون ولا يشربون ولا يتناكحون ولا يتوالدون. ومن أدلة كثرتهم ما ورد في حديث الإسراء “أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون”. اهـ
كما ورد في القرآن أنهم ذَوو أجنحة مختلفة العدد، قال تعالى: “الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”، وورد في السنة أكثر من ذلك، فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ»، ومما يدل على عظمة خَلْقهم ما رواه أبو داود عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ”. وقال ابن حجر إسناده صحيح.
من أهم المعاني التي ينبغي على المسلم استحضارها بالنسبة للملائكة.. هي ملازمتها الدائمة له، قال تعالى: “لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ” وقال سبحانه: “مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ“، وقال صلى الله عليه وسلم: “يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ: مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ العَصْرِ وَصَلاَةِ الفَجْرِ“ رواه البخاري ومسلم. ومنهم ملائكة منتشرون يبحثون عن مجالس الذِّكْر، فإذا ما اجتمع عدد من المسلمين يذكرون الله تعالى، تنادوا وتداعوا ليشهدوا هذا المجلس، فيحفُّونه بأجنحتهم، ويتراصون فوق بعضهم حتى يصلوا إلى السماء الدنيا من كثرتهم واحتشادهم. وقد ورد هذا المعنى في حديث طويل عن أبي هريرة عند البخاري ومسلم. وهذا المعنى يحرك في العبد وازع الإقبال على الخيرات والبعد عن المنكرات.
يلخص عمرو بن معدي يكرب حال الحرب في أبيات، فيقول:
الْحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً … تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ
حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَا … وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ
شَمْطَاءَ يُنْكَرُ لَوْنُهَا وَتَغَيَّرَتْ … َمكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ
وهو هنا يعتبرها في أول الأمر كالفتاة الشابة الجميلة التي تغري كل من رآها، ثم فجأة تصبح كالعجوز الشمطاء التي يفِرُّ منها الرجال، حيث الدماء تسيل والرقاب تطير والأرواح تزهق أمام عين المقاتل، فضلا عن الإصابات والتشوهات والإعاقات التي تصيب المقاتلين، كل هذا والمؤمن يعلم حرمة الفرار من أرض المعركة، وأنه إذا فعل ذلك يكون قد وقع في كبيرة التولي يوم الزحف، قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ”، فإذا أضفنا إلى ذلك تميز العدو وتفوقه في جانب العدة والعتاد، بل إن المجاهدين المسلمين في العصور المتأخرة يخوضون معارك ليس لهم فيها عُشْر ما عند أعدائهم من العدد والسلاح كمًّا ونوعًا؛ كل هذا يؤدي إلى شدة الفتنة التي يواجهها المسلم في معاركه.
ولعل ما ذكره الله في وصف حال المؤمنين يوم الأحزاب يكون كفيلا بتقريب الأمر إلى أذهاننا، وذلك للتشابه الشديد بين معاركنا الحالية وموقعة الأحزاب، قال تعالى: “وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا“، وهنا يتأكد الاحتياج لاستحضار دور الملائكة ووظيفتهم العظيمة آنذاك بتثبيت المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين، قال سبحانه: “إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ“. وعلى قدر تصديق القلب بهذا المعنى، على قدر ما يجد أثره عند الاحتياج إليه.
ينبغي أن نؤكد هنا أن كل ما يتعلق بالملائكة مرده إلى الإيمان بالغيب الذي امتدح الله أهله في بداية سورة البقرة، “ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ“، وفي غيرها من آيات الكتاب العزيز، ومن ثَمَّ فنحن نؤمن فقط بما ورد على لسان الوحي في شأن أسماء الملائكة ووظائفهم، وقد ورد اسم جبريل (وهو الروح الأمين، والروح القُدُس) وله عدة وظائف، أهمها النزول بالوحي على الأنبياء والمرسلين، كما ورد ميكائيل، واشتهر أنه الموكل بالقِطر والنبات، وإسرافيل الذي نَصَّ عامة أهل العلم أنه الموكل بالنفخ في الصور، وقد رويت في إثبات هذه الوظائف لهما أحاديث ليست بالقوية عند المُحَدِّثين، لكن الأمر يشبه الإجماع، وهناك ملك الموت، وقد ورد عن وهب بن منبِّه وأشعث بن شعيب تسميته عزرائيل، لكن ليس فيه حديث أصلا، وروى الترمذي حديث فتنة القبر، وفيه اسما الملكين “المنكر والنكير”، وعندنا كذلك ملك الجبال الذي جاء للنبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الطائف، وهناك هاروت وماروت المذكوران في سورة البقرة، ويُروى أيضا أن خازن الجنة اسمه رضوان، كما أن خازن النار اسمه مالك.
عندما يعلم المسلم أن الملائكة “لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ“ وأنهم “لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ“ وأنهم “عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ“، إلى غير ذلك مما مُدِحوا به في كتاب الله وسنة رسول الله، فإن الواجب آنذاك أن يحبهم ويرفع شانهم ويتجنب أذيتهم ويواليهم جميعا ولا يعادي أحدا منهم، قال تعالى: “قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ“. إضافة إلى أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم.
ورغم أن الحديث عن الملائكة شيق وجميل، إلا أن مقالا كهذا لن يوفي الموضوع حقه مهما طال، ولعل هذه الإشارات تفتح المجال للقارئ حتى يتعرف أكثر على هذه المخلوقات النورانية وصفاتهم وأعمالهم وواجباتنا نحوهم، وبإذن الله سيجد بغيته في الكتاب الذي أشرت إليه في أول المقال.
والله من وراء القصد.
التعليقات