استكمال الثورة والاستسلام.. الخيارات المُرَّة

سبع سنوات مرَّت على بداية الحراك الشعبي لمقاومة الجاهلية المستبدة القابعة فوق رؤوسنا، والناظر للحال مع بداية العام الثامن لا يتفاءل بالمآل، حيث لا يرى إلا مزيدًا من الدماء والاعتقالات والمطاردات، بل لعل الكثيرين بدأوا يَنْظُرون إلى رأي رسلان وأتباعه على أنه الرأي الرشيد والحكم السديد، حيث لا يجوز الخروج على الحاكم المُتغَلب، ووجوب السمع والطاعة له “وإن جلد ظهرك وأكل مالك”، ولعل الكثيرين كذلك بدأوا يفكرون في عقد مصالحة مع السيسي ونظامه في مصر، بدعوى أنهم أهل الشَّوْكَة والغَلَبَة، وأن الإصلاح لن يحصل إلا من داخل المؤسسة العسكرية.

ولا يكاد الفريق الأول يبدأ في البحث عن طريقة مناسبة يعلن بها اعتذاره عن فكرة الثورة وتوبته منها، وأنه سيسعى للتغيير والإصلاح من خلال الدستور والقانون؛ حتى يصدمه رسلان بقوله: إن السيسي لابد أن يبقى وَلِيَّ أمرٍ مدى الحياة، ولا يجوز أن ينازعه أحد في منصبه، ومن ثَمَّ يحرم الترشح أمامه في انتخابات الرئاسة القادمة!! (طبعا إذا كان هناك شيء في مصر اسمه انتخابات أصلا).

ولا يكاد الفريق الثاني يبدأ في صياغة وثيقة المصالحة باعتبار أن نظام العسكر سيفرح بها -أو سيقبل الفكرة على أقل تقدير- حتى يصعقهم النظام بتنفيذ جملة من التصفيات والإعدامات، معلنا لهم أن المعركة صفرية استئصالية، وأنه لن يقبل منهم صرفا ولا عدلًا، وعليهم أن يعلنوا استسلامهم الكامل بشروطه وإملاءاته هو دون قيد أو مطلب واحد منهم، وأنه هو من يقرر مصير المعتقلين والمطاردين، فيعفو عَمّن يشاء وقتما يشاء كيفما يشاء، ويعاقب من يشاء وقتما يشاء كيفما يشاءن فيعود الرفيقان أدراجهما حائرين يفكران يتساءلان (أو كما قال عبد الحليم حافظ).

لا أرى أن مشكلة الفريقين تكمن في سوء تقدير المواقف أو عدم التوفيق في اختيار التوقيت، لكني أرى أنهم لا يعرفون شيئا عن طبيعة الصراعات المستمرة بين الحق والباطل، كأنَّ أحدا منهم لم يقرأ القرآن مرة واحدة، أو لم يدرس سيرة نَبِيٍّ واحد من أنبياء الله!! حيث تمسك الجاهلية عن استئصال دعوات الحق في أول نشأتها بسبب ضآلة حجمها من جهة، ومن ثَمَّ عدم تخوفها منها أو قلقها على سلطانها ومُلكها، وسعيًا لاحتوائها وتدجينها ومحاولة توظيفها لخدمة مصالحها من جهة أخرى، حتى إذا بَدَتْ معالم نُمُوِّ الدعوة وظهور أمرها، كانت الحرب الشعواء {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ}، {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}، {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}، {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ}.

وفي قِصَّة أصحاب الأخدود التي ذكر الله أصلها في القرآن، وذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تفاصيلها، قام الملك بتعذيب جليسه الأعمى حتى دَلَّ على الغلام، ثم عذب الغلامَ حتى دَلَّ على الراهب، ثم ساوم الراهب وبعدها قَتَلَه، ثم فعل نفس الأمر مع جليسه، ثم حاول قتل الغلام بشتى الطرق فعجز؛ حتى دَلَّه الغلام على طريقة يقتله بها تكون سببا في إيمان الناس، وفعلا آمن الناس، فقَتَلهم الملك دون أن يبالي، لأنه كان مدعوما من المجتمع الدولي الذي يبيح قتل المسلمين مهما كانوا سلميين مستضعفين.

وإذا كان البعض قد سخر من الأستاذ البصير حازم أبو إسماعيل عندما قال: إن نجاحي في الوصول للرئاسة من عدمه سيؤثر على طبيعة الرئيس والنظام الأمريكي القادم، فإن الأيام أثبتت صحة رؤيته للأحداث، فعند نجاح الثورات وتحقيقها مكتسبات في مواجهة أنظمة القمع والعمالة، تحتاج الدول العظمى لسياسة المداهنة واللعب تحت الطاولة، أما عند هزيمة الشعوب وتمكن المجرمين، فوقتها يكون اللعب على المكشوف والضرب فوق الحزام والتصريح بمحاربة الإسلام والمسلمين ومحاولة استغلال الفرصة للإجهاز على البقية الباقية من فكرة المقاومة فيها. وهو المشاهَد حاليا في أمريكا وأوروبا وروسيا والصين، فضلا عن مصر وسوريا والعراق وليبيا واليمن، والمحاولات مستمرة على تركيا.

واقع الثورات مؤلم في الحقيقة -ولا ينكر ذلك أحد- وقد بلغت القلوبُ الحناجرَ وكَثُرَت الظنون بالله جل وعلا، والذين اعتادوا طأطأة رؤوسهم وتصويب أعينهم تجاه أقدامهم ينظرون إلى المنحنى البياني ويرونه الآن في جهة الهبوط والانحدار، يتشاءمون ويرددون: لا طاقة لنا اليوم بالنظام العالمي ووكلائه وجنوده، ومنهم من يقول: يا أصحاب الدعوات لا مقام لكم فاستسلموا. وأفضلهم حالا يقول: متى نصر الله؟ أما أهل الإيمان والعزة واليقين، فيقولون: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}. وينتظرون غدا حين يقولون: “اليوم نحن نغزوهم ولا يغزوننا”.

يروق لي، والحال هكذا، أن أضرب المثل بما يصيب جسد الإنسان من الأمراض والأوجاع، حيث الأمراض الخطيرة التي تنخر في الجسد وتأكله حتى تكاد تقضي عليه ضعيفة الألم الظاهري، في حين أن كسور الأطراف والجروح السطحية ألمها شديد حتى لا يكاد يتحملها إنسان -وهذا بالضبط حالنا- احتلال ووكلاؤه ينخرون في جسد أُمَّتِنا مثل السرطان ويسعون للقضاء عليها، فإذا ما أردنا معالجة هذا السرطان فوجئنا بألم العلاج الكيماوي وضرر الإشعاعات وآلام الجراحات، ورغم ذلك يصر العقلاء على استكمال مسيرة العلاج، بل إن المقبلين على إجراء جراحات القلب المفتوح يوقعون على ما يفيد إخلاء مسؤولية الطبيب حال حدوث الوفاة أو عدم نجاح العملية.

إن بقاء هذه الأنظمة لا يعني إلا موت أُمَّتِنا شيئًا فشيئًا، واستمرار مقاومتها ومواجهتها هو الخيار الوحيد مهما أصابنا في سبيل ذلك من آلام وأوجاع، وإذا كان للاستمرار ضريبته، فإن الاستسلام يعني مضاعفة هذه الضريبة، علما بأن هذه الضريبة لابد منها، بحيث لو فَكَّرَت الأمة أن تعيد الكَرَّةَ ولو بعد مائة عام، ستدفع الضريبة شاءت أم أبَتْ.

والله من وراء القصد.


التعليقات