لم يشوه أحدٌ السلفيةَ مثل ما شوّهها كثيرٌ من المنتسبين إليها والمحسوبين عليها، ولعل أكثر من قام بهذا التشويه هي طائفة السلفية المدخلية، حيث تحمل بعض الأصول السلفية في أبجديات فكرها ومنهجها، لكنها قد بدَّلتْ وغيرتْ كثيرا من الأسس والقواعد السلفية الأصيلة؛ ولعل أبشع ما قام به المداخلة من تشويه للسلفية هو تحريف مفهوم السلفية نفسه! فالسلفية عند عامة علمائها ومُنَظّريها: هي العمل بالقرآن والسنة وفق القواعد والأصول التي اتفق عليها سلف الأمة من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين. أما السلفية عند المداخلة: فهي لَيُّ أعناق نصوص القرآن والسنة لإضفاء الشرعية على سياسات ورؤى آل سعود.
طبعا أنا أحدثك من داخل المعسكر السلفي الذي تربيتُ على أصوله -بل- وعشقتُ قواعدَه، وقد عاصرتُ نشأة الفكر المدخلي وتدرجَ انحرافه، حتى وصل إلى درجة لم يكن أشدُّنا تشاؤما يتوقعها أو يتخيلها. لكني أريد أولا أن أؤكد على أن انتساب هذه الطائفة لمدرسة المشايخ الثلاثة “عبد العزيز بن باز – محمد ناصر الدين الألباني – محمد صالح العثيمين” هي نسبة زور وبهتان، حتى لو توافقوا معهم في بعض الأصول أو الفتاوى، ومهما اختلفنا نحن مع المشايخ الثلاثة.. فقد كانت تأصيلاتهم وتفريعاتهم دالَّةً على علم منضبط بمقاصد الشريعة، ونابعة من حرص حقيقي على مصالح أمة الإسلام في مواجهة أعدائهم، شأنهم في ذلك شأن أهل العلم على مدار التاريخ.
مثلا، نقل الشيخ بكر أبو زيد عن الشيخ الألباني قوله: إن في كلام سيد قطب -رحمه الله- وفي بعض تصانيفه مما يشعر الباحث أنه كان قد أصابه شيء من التحمس الزائد للإسلام في سبيل توضيحه للناس. ولعل عذره في ذلك أنه كان يكتب بلغة أدبية؛ ففي بعض المسائل الفقهية كحديثه عن حق العمال في كتابه: “العدالة الاجتماعية” أخذ يكتب بالتوحيد، وبعبارات كلها قوية تحيي في نفوس المؤمنين الثقة بدينهم وإيمانهم، فهو من هذه الخلفية في الواقع قد جدّد دعوة الإسلام في قلوب الشباب، وإن كنَّا نلمس أحيانًا أن له بعض الكلمات تدل على أنه لم يساعده وقته على أن يحرر فكره من بعض المسائل التي كان يكتب حولها أو يتحدث فيها. (انظر كتاب: معجم المناهي اللفظية – حرف الجيم / جاهلية القرن العشرين) ثم قارن هذا الأسلوب في النقد من الشيخ الألباني وإقرار الشيخ بكر له بما يقوله ربيع المدخلي وأتباعه عن سيد قطب.
ومما ينبغي أن يعرفه كل متابع للحركة الإسلامية، أن السلفية في أصلها عقيدة وفكر ومنهج وليست جماعة أو حزبا أو تنظيما، ومصطلح السلفية يعتبر امتدادا لمصطلح أهل السنة والجماعة، ومن ثمَّ لا يجوز لأحد أن يحتكره أو أن يحصره في اتباع أُناسٍ بأعيانهم، وقد عرف الأعداء هذا الملمح، لذلك ركزوا على نشر أفكار المداخلة وتسليط الضوء عليها أكثر من أسمائهم وشخوصهم، خاصة تلك الأفكار المتعلقة بتقديس ولي الأمر (إذا كان مرضيًّا عنه في السعودية).
تم التعارف على هذه التسمية نسبة إلى شيخهم السعودي ربيع بن هادي المدخلي، حيث يعتبرونه إمام العصر ومجدد الدين وحامل لواء السنة والجماعة، في حين أن ديدنه هو الجرح والتشهير بكل داعية أو جماعة لا تسير على دربه هو وشيخه الإثيوبي الأصل محمد أمان الجامي. أشهر رموزهم في مصر على الإطلاق محمد سعيد رسلان الذي يخطب ويُدرّس في أحد مساجد المنوفية، وصاحب الفتوى الشهيرة لجنود السيسي بوجوب قتل المعارضين من أهالي كرداسة وغيرهم، ويليه في الشهرة محمود لطفي عامر ومحمود الرضواني -صاحب قناة البصيرة- وحسن عبد الوهاب البنا وخالد عثمان “أبو عبد الأعلى” وعلي الوصيفي، وكان معهم كذلك أسامة القوصي الذي تغير كثيراً على طريقة عادل إمام في فيلم “الإرهابي” وترك المداخلة.
وبدءًا من تحريض الجامي رجال الأمن والسلطة في السعودية على الدعاة الرافضين لدخول القوات الأجنبية أرض الجزيرة، وصولا إلى تحريض الرضواني وزيد المدخلي لحفتر وجنوده على قتل وإبادة الحركات الثورية في ليبيا -بين هذا وذاك- تقبع عشرات أو مئات الفتاوى التي تستبيح دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم، في مقابل المهادنة والموادعة للصليبيين والصهاينة؛ كل ذلك من أجل إرضاء حكام وملوك السعودية لا غير. حتى أنهم لم يثبتوا على مذهبهم في تعظيم ولي الأمر مع مرسي وأردوغان وتميم، لأن طويل العمر عندهم لا يرغب في وجود أحد من أبناء الحركة الإسلامية في السلطة، ولا حتى يكون متعاطفًا معهم!
من أهم وسائل المدخلية للتأثير على الأتباع هو التلبيس والتدليس، فمثلا.. ينقلون بعض الأدلة المتعلقة بحق الحاكم المسلم في السمع والطاعة، دون أن ينقلوا النصوص التي تحصر هذا السمع والطاعة في الحاكم الذي يقيم كتاب الله ويؤدي حقوق الأمة، كما أنهم يزعمون إجماع السلف على تحريم الخروج على الحاكم الفاسق، في حين أن الخلاف في المسألة محفوظ ومشهور، وقد بيّنتُ تدليسَهم هذا في مقال نقاش هادئ مع هيئة كبار العلماء، كما أنهم يدلسون بدعوى هدي السلف في الصبر على أئمة الجور والظلم، بَيْدَ أنهم يناصرون أئمة الجور والظلم ضد المساكين والمستضعفين، وهو مالم يثبت عن أحد من أئمة السلف قط، بل إن الذي يرجع إلى كلام القائلين من السلف بالصبر على جور الحكام، يجده كله يصب في خانة تهدئة الأوضاع الداخلية حتى يتفرغ الحاكم وجيوش الإسلام للأعداء الخارجيين، وهو مالا يوجد منه مثقال ذرة في حكامنا الحاليين.
من أشهر الأحاديث الواردة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حديث: “من رأى منكم منكرا… إلى آخر الحديث” ورغم شهرة هذا الحديث وكثرة استعماله، إلا أن القصة التي ذكره فيها أبو سعيد الخدري لا تكاد تجد لها ذكرا عند هؤلاء المدلسين، رغم وجودها في صحيح مسلم -بل- إن عامة كتب السنة التي روت الحديث بإسناده قد ذكرت هذه القصة.
فعن طارق بن شهاب قال: أَخرج مروانُ المنبرَ في يوم عيد، ولم يكن يُخرج به، وبدأ بالخطبة قبل الصلاة، ولم يكن يُبدأ بها، فقام رجل فقال: يا مروان خالفتَ السنّةَ، أخرجت المنبر في يوم عيد، ولم يكُن يُخرج به في يوم عيد، وبدأتَ بالخطبة قبل الصلاة، ولم يكن يُبدأ بها، قال طارق: فقال أبو سعيد الخدري: من هذا؟ قالوا: فلان بن فلان قال: فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ”.
وموضع الشاهد من القصة هو كون راوي الحديث، وهو الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري قد ذكره مادحا إنكار رجل من عامة الناس، على الخليفة مروان بن الحكم، على الملأ؛ وهو خلاف ما يتم استعمال الحديث فيه حاليا، حيث تعطل استعماله في الإنكار على السلطة، وتم توظيفه فقط فيما يراه الحاكم منكرا يجب النهي عنه!
ومما يدل بوضوح على هذا المعنى الذي أقصده، ذلك الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: “مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي، إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ، وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ، لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ”، وفي رواية ابن حبان والبزّار بسند صحيح “سَيَكُونُ أُمَرَاءُ مِنْ بَعْدِي يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ…” الحديث.
فهذا الحديث يدل دلالة ظاهرة على مدح مجاهدة أمراء الجور والظلم باليد واللسان و”القلب للعاجز” وجعله أدنى مراتب الإيمان، حتى وإن ترتب على ذلك لحوق الأذى بمن يؤدي هذا الواجب العظيم، فقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بـ “أفضل الجهاد”، وجعل المقتول فيه سيدا للشهداء مع حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وعلى ذلك درج السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، حتى قال ابن داود أبو بكر الحنبلي رحمه الله: “والمقصود أنه كان من عادة السلف الإنكار على الأمراء والسلاطين والصدع بالحق وقلة المبالاة بسطوتهم إيثاراً لإعزاز الشرع على حفظ مُهَجِهِم واستسلاماً للشهادة إن حصلت لهم”. اهـ
ومن تلبيسهم وتدليسهم كذلك.. استشهادهم بما يترتب على الثورات المعاصرة من قتلى واعتقالات، دون أن يوضحوا أن القاتل والسّجّان هم هذه الأنظمة الطاغوتية التي يدافعون عنها، ودون أن يبينوا المخاطر والأضرار التي ترتبت على وجود هؤلاء المجرمين في سدة الحكم، وأشد هذه الأضرار هو تحريف العقيدة ونشر الانحلال والفساد الأخلاقي والاجتماعي وسط المسلمين، فضلا عن تكبيلنا وتقييدنا داخل حظيرة الاحتلال، واستمرار التبعية لأعدائنا!
ترى هؤلاء المتهوكين يصفون عامة خصومهم من أبناء الحركة الإسلامية بأنهم تكفيريون وخوارج، رغم أننا والحمد لله نعرف أن منهج السلف هو التحفظ في تكفير المخالفين، خوفا من الدخول في دائرة قوله عليه الصلاة والسلام: “مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرٌ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا”، في حين أنهم هم من اتخذوا السيسي وحفتر إخوانا لهم، وكفروا عددا من الدعاة والعلماء مثل الشيخ محمد سرور والأستاذ سيد قطب رحمهما الله، وقد ذكرت ذلك موثقا عنهم في مقال المداخلة ومقتل الشيخ نادر العمراني. وللحديث عن هذه الفرقة الضالة مقالات أخرى بإذن الله.
والله من وراء القصد
التعليقات