هل ترمب متهور فعلا؟

منذ أن رشح نفسه لرئاسة أمريكا وهو يواجه اتهامات بالجنون وفقدان العقل، ورغم ذلك لم يأبه بهذا اللغط، وخاض السباق بشعارات تسببت في زيادة الاتهامات والتهكمات، ونجح وأصبح رئيس أقوى دولة في العالم، وخرجت المظاهرات ضده في أنحاء الولايات المتحدة، ولم يتراجع عن شيء مما أعلنه، بل يبدو أن خصومه هم الذين اقتنعوا بأفكاره ومنهجه، حيث الاستعلاء بقوة أمريكا، والمبادرة للقضاء على المسلمين المستضعفين، واستعمال سياسة الوضوح والصراحة بدلا من سياسة الخفاء والمداراة التي تمارسها أمريكا منذ عقود. وفي حين يسخر الكثيرون من قراراته.. يبدو أن الرجل يسير بخطى ثابتة ويعرف بالضبط أين يضع قدميه، في ظل ضعف وانهزامية قيادات الحركة الإسلامية.

حسابات ترمب بخصوص القدس

لو ضربنا مثالا بالقرار الأكثر جرأة لترمب ضد المسلمين.. لوجدناه قرار نقل السفارة الأمريكية لدى الكيان الصهيوني إلى مدينة القدس المحتلة، بما يعني تحدي واستفزاز مشاعر المسلمين بإعلان القدس عاصمة لدولة الاحتلال؛ وهو القرار الذي وصفه الكثيرون بالتهور والسّفّه، بل حتى شركاء أمريكا في محاربة المسلمين وصفوه بأنه قرار غير مسؤول. وباستعراض بعض الحسابات المادية ومواقف الدول ذات التأثير على القضية الفلسطينية، قد يظهر لنا صحة وجهة نظر ترمب وليس العكس!

1- مصر

التاريخ والجغرافيا يشهدان بأن مصر هي الدولة الأكثر تأثيرا على قضية القدس خصوصا وفلسطين عموما. وقد زارني بعد الثورة في مصر صحفي أمريكي كان يعد تقريرا حول آراء المتدينين فيما يتعلق بوجود دولة للاحتلال الصهيوني في المنطقة. فقلت له إن الشعب المصري يرفض ذلك رفضا قاطعا. فقال لي: أعرف هذا، لكني أريد رأي أبناء الحركة الإسلامية. فسألته: لماذا؟ قال: لأنكم ستتولون حكم مصر قريبا، ويهمنا معرفة رأيكم في هذا الأمر. فقلت له: الحركة الإسلامية جزء لا يتجزأ من الشعب المصري، وهمومها لا تختلف كثيرا عن همومه، ومهما كانت الحسابات معقدة.. فلا يجوز لها إذا وصلت للسلطة أن تتبنى خيارا مصادما لآمال وطموحات المصريين في هذه القضية.

لكن.. أين مصر الآن؟

مصر الآن يحكمها سيسي، وقد وصل هذا السيسي للحكم عن طريق الانقلاب والثورة المضادة، فطبيعي أن يكون همُّه الأول هو القضاء على فكرة الثورة التي ما زالت عالقة بأذهان عامة الشباب المصري، فضلا عن انشغاله بالحركات الجهادية التي تنشأ بين الحين والآخر داخل مصر، غير أنه لم يستطع القضاء على تنظيم الدولة في سيناء والذي بدأ يتمدد في عدة مناطق أخرى، كما أنه ما زال يصارع فلول مبارك الذين يتحينون الفرصة هم أيضا لاسترداد ملكهم الضائع وسلطانهم المسلوب.

فإذا أضفنا إلى ذلك الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي أغرق فيها البلاد.. لوجدنا أنه لا يستطيع أن يدخل يَزُجّ باسم مصر في أي مشكلات خارجية. فكيف إذا كان هو نفسه عدوًّا للمسلمين ومقدساتهم، مواليًا لأعدائهم وخصومهم على طول الخط؟ وعموما.. فقد قرأت أثناء كتابتي هذه الأسطر تقريرا يقول بأن مصر حاليا هي الدولة الأضعف تأثيرا على مجريات الأحداث في منطقة الشرق الأوسط.

2- السعودية

عندما يتعلق الأمر بالمقدسات الإسلامية، فإن عيون المسلمين تتوجه صوب أرض الحرمين الشريفين، وينتظرون أن يخرج منها ما يثلج صدورَهم ويُقِرّ أعينَهم. لكن الصدمة الكبيرة تبرز في انشغال سلمان وابنه بحصار مسلمي دولة قَطَر، ومطاردة الحركة الإسلامية بعلمائها ودعاتها ووضعهم على قوائم الإرهاب، بل إنهم يحاربون حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين (حماس)!

وقد وصل الحال بحكام الجزيرة أن يعلنوا التطبيع مع الكيان الصهيوني، وقد صرح السديس (إمام المسجد الحرام) بأن السعودية تابعة بشكل كامل لأمريكا، لكن اللفظ خانه وأطلق هذه النكتة المُضحكة “السعودية وأمريكا تقودان العالم إلى بر الأمان والاستقرار”، فإذا أضفنا لذلك الشراكة السعودية الإماراتية لوأد ثورات الربيع العربي.. لأيقنَّا بأن حكام السعودية نفسها صاروا أعداءً للمسلمين ومقدساتهم! وسيحرص محمد بن سلمان على مزيد خيانة وعمالة، إرضاءً للسيد الأمريكي من أجل أن تدعم بقاءهم في سدة الحكم، ومن أجل حمايتهم من المشروع الإيراني التوسعي في المنطقة.

3- إيران

من المهم أن نقرر أن إيران دولة صاحبة مشروع طائفي معادٍ لأهل السنة الذين يمثلون عموم المسلمين، وفي نفس الوقت يتعارض هذا المشروع -أحيانا- مع المشروع الصهيوأمريكي في المنطقة، ومن ثَمَّ فلابد أن تعلن إيران رفضها لهذا القرار، وقد تستخدم لغة تصعيدية تهديدية في خطابها، لكن سوء سمعتها عند جماهير المسلمين بسبب جرائمها المستمرة حاليا في العراق وسوريا واليمن.. ستمثل عائقا كبيرا في إحداث أي صدى لخطاباتها بشأن قضية القدس، وبالتالي ستبقى مجرد شعارات جوفاء لا أثر لها على أرض الواقع، وستشبه خطابات الشجب والإدانة والقلق الصادرة من الأمم المتحدة، حيث لا تُسمِن ولا تغني من جوع.

4- تركيا

قد تكون تركيا هي الدولة الأكثر اتساقا وتناغما مع قضية القدس وفلسطين، لكن.. ما الذي تستطيع فعله؟

* لقد هدد أردوغان بقطع العلاقات السياسية مع دولة الكيان الصهيوني. -ولا أظنه سيفعل، لأن هذا القرار له حساباته المعقدة نوعا ما- وإذا فعل.. فستلاعبه أمريكا بحلفائها ووكلائها داخل تركيا لزيادة وتيرة القلاقل قبل الانتخابات التركية المقبلة (بلديات وبرلمان ورئاسة). وقد تلاعبه بإعادة الاضطرابات والمعارك على الحدود مع سوريا.

* وقد دعا أردوغان لعقد قمة طارئة لمنظمة التعاون الإسلامي، ورغم ضعف التمثيل في قمة إسطنبول، إلا أن المشاركين قد دَعَوا إلى الاعتراف بدولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، لكن.. هل يستطيعون تنفيذ وتفعيل هذا، أم أنه لن يتخطى حيز الكلام؟ وهل الدول الموقعة على البيان الختامي مؤمنة حقا بهذا القرار، أم أن أغلبهم مراوغون ومخادعون؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام المقبلة.

كما دعا أردوغان لتنظيم فعاليات شعبية على مستوى العالم الإسلامي لنصرة القدس والمسجد الأقصى. (وهذه النقطة سأتكلم عنها تفصيلا بعد قليل).

الخلاصة

من خلال هذا الاستعراض لمواقف الدول صاحبة التأثير في الملف الفلسطيني، نلاحظ أن ترمب والإدارة الأمريكية لا يجدون مانعا حقيقيا يحول بينهم وبين هذه الخطوة التي تأجلت اثنين وعشرين عاما. فلماذا إذن يتم اتهام ترمب بالتهور وعدم الاتزان في قراراته؟!

الفعاليات الشعبية

بقي لنا أن نتكلم عن خيارات الشعوب العربية والإسلامية، وهي التي أثبتت كثيرا أنها مستعدة للتحرك والبذل من أجل قضية القدس والأقصى، لكن هذه الشعوب ستفاجأ بأن جيوشها وحكوماتها هم أول من سيقفون في طريقهم، بل إن هؤلاء الحكام وهذه الجيوش يمثلون خط الدفاع الأول عن دولة الكيان الصهيوني الغاصب المحتل!! لذا.. يتوجب علينا جميعا أن نستعيد المسارات الثورية بكل أدواتها من أجل إسقاط هؤلاء الحكام أولا.

ولعل استمرار المعركة بين الثورة وأعدائها في سوريا وليبيا تكون سببًا في عودة الروح إلى مصر وتونس والمغرب، ولعلها أيضا تمثل درسًا لقيادات (سلميون بلا حدود)، يتعلمون منه أن الثورة لها أدواتها التي لابد من امتلاكها مع حُسْن توظيفها، قال تعالى: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَوقال سبحانه: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.

وإذا كان هذا هو الخيار الوحيد بالنسبة لنا.. فإننا أيضا بعد القتل والتشريد والتعذيب الذي نعانيه، ليس عندنا شيء نبكي عليه، ولعل حالة السيولة المسيطرة على المشهد عموما، تكون أحد أهم العوامل في انتصار الشعوب على حكامها، وهو مالم يحسبه ترمب وإدارته جيدا.

والله من وراء القصد.


التعليقات