قبل أن أتكلم عن هذا العنوان الغريب العجيب، أريد أن أذكر شيئا استوقفني من كلام ابن القيم في مدح شيخه ابن تيمية؛ حيث قال: (ما رأيتُه يدعو على أحدٍ من خصومه قط، وكان يدعو لهم، وجئتُ يوما مُبشرا له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له؛ فَنَهَرَني، وتنكَّر لي، واسترجع ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزّاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه ونحو هذا من الكلام. فسُرُّوا به ودعوا له وعظموا هذه الحال منه) اهـ من كتاب مدارج السالكين.
إن جماعة البراهمة قد أتوا بما هو شرّ من الإرجاء، حيث شرعنوا حاكمية المحاربين للشريعة الموالين لأعداء الأمة المعطلين لشعيرة الجهاد!!
والذي استوقفني في هذا الكلام هو المشهور عن ابن تيمية رحمه الله من شدة حرصه على السنة ومدافعة البدعة، والخصوم الذين يتكلم عنهم ابن القيم كانوا أحد فريقين: فريق أصحاب بدع. وفريق أصحاب حقد شخصي وحسد بسبب حب الناس له، وهذا الكلام فضلا عن كونه تأكيدا أن الرجل كان يحارب البدع والضلالات دون انشغال بأشخاص أصحابها، فإنه يدل كذلك على عدل وإنصاف الرجل وإعطاء كل ذي حق حقه. حتى قال بعض أصحابه الأكابر: وددتُ أني لأصحابي مثل ابن تيمية لأعدائه وخصومه.
قارن هذا بما فعله أحمد الشريف القيادي بحزب النور عندما مات الأستاذ محمد مهدي عاكف رحمه الله، وبعدما منعت سلطات البطش المصرية المسلمين من صلاة الجنازة عليه وشهود دفنه؛ حيث نشر على صفحته قصة رفض سفيان الثوري الصلاة على عبد العزيز بن أبي رواد لأنه كان فيه شيء من بدعة الإرجاء، وهنا يريد القيادي السياسي السلفي أن يوهم أتباعه بأن السيسي تشبه بسفيان الثوري فنصر السنة وقمع البدعة وأهلها!! لكنه لم يقل لقرائه: هل استعان سفيان الثوري برجال الأمن لمنع الصلاة على عبد العزيز؟ علما بأن لابن أبي رواد موقفا من السلطة حينها يشابه موقف عاكف من السلطة الحالية، فقد روى الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يوسف بن أسباط قال: مكث ابن أبي رواد أربعين سنة لم يرفع طرفه إلى السماء، فبينما هو يطوف حول الكعبة إذ طعنه المنصور (الخليفة أبو جعفر) بأصبعه، فالتفت فقال: قد علمت أنها طعنة جبار.
تذكرت حين قرأت كلام الشريف أحد أصدقائي الأتراك، حيث حكى لي أنه التقى شابا سلفيا مصريا من أنصار مدرسة ولي الأمر طويل العمر، فسأله: لماذا لا تكون مع السلفيين الذين يرفضون حكم السيسي؟ فأجابه المصري: إن هؤلاء يقفون صفا واحدا مع الأشاعرة. فقال التركي: وما المشكلة في ذلك؟! فأجابه: الأشاعرة يقولون إن الله في كل مكان. فسأله التركي: وهل السيسي سلفي يقول إن الله في السماء ولذلك تقفون معه؟ فسكت المصري وعجز عن الجواب. لكني ضحكت حتى بكيت عندما أخبرني صديقي التركي بهذه القصة. فأنا سلفي وحتى هو سلفي أيضا، لكن حال السلفية المتصدرة صار مضحكا لدرجة البكاء. وما كلام السديس عن قُطبَي العالم (السعودية وأمريكا) منكم ببعيد!!
في الوقت الذي عرف فيه الصغير قبل الكبير والجاهل قبل العالم أن حكام اليوم ما هم إلا عملاء وأدوات للاحتلال والغزو الصهيوصليبي، مازالت هناك طائفة تدعي السلفية من أتباع المدخلي ورسلان وبرهامي يكذبون على الأمة ويزورون الحقائق الساطعة ويزعمون أنهم أولياء أمور!!
لم يتوقف العجب من موقف أحمد الشريف، فقد دل أتباعه على أن أخلاق الكبار تقتضي هجر أصحاب البدع وترك الصلاة عليهم، ثم إنه بعدها بقليل نَشَر بيان عزاء مقتضب من سلفية برهامي في الأستاذ عاكف، وصدّر البيان بقوله: أخلاق الكبار الكرام، رغم الخلاف والاختلاف!! في مشهد متناقض متضارب لا يعرف فيه متابعوه أيّ الموقفين هو أخلاق الكبار، وأيّ المنهجين أولى بالاتباع.. منهج الجفاء والغلظة على المبتدعة أم منهج الرفق بأهل البدع والترحم عليهم؟ علما بأن سفيان الثوري وغيره من السلف برآء من منهج برهامي وحزبه الذي يعتبر السيسي وليَّ أمر شرعي وأنه خير من جماعة الإخوان المسلمين. ولئن كان ابن أبي رواد عنده شيء من الإرجاء، فإن جماعة البراهمة قد أتوا بما هو شرّ من الإرجاء، حيث شرعنوا حاكمية المحاربين للشريعة الموالين لأعداء الأمة المعطلين لشعيرة الجهاد!!
في الوقت الذي عرف فيه الصغير قبل الكبير والجاهل قبل العالم أن حكام اليوم ما هم إلا عملاء وأدوات للاحتلال والغزو الصهيوصليبي، مازالت هناك طائفة تدعي السلفية من أتباع المدخلي ورسلان وبرهامي يكذبون على الأمة ويزورون الحقائق الساطعة ويزعمون أنهم أولياء أمور!! وهذه الفئة ما عادت ترى أنّ هناك أعداءً للأمة من خارجها، فاصطنعوا عداوات داخلية، وخاضوا معارك ضارية ضد الحركة الإسلامية التغييرية، وإذا نظرت في حالهم لوجدتهم لا يتكلمون عن اليهود والنصارى، ولا يخوضون معهم عُشرَ الحروب التي يخوضونها مع أشراف وأطهار ومجاهدي هذه الأمة، فتراهم ينبذون (حازم أبو إسماعيل) ويعادون (د.محمد مرسي) ويطعنون (حسام أبو البخاري) ويحاربون (الجبهة السلفية) ويشوهون (الإخوان المسلمين) ويلمزون هذا وينتقصون ذاك من المجاهدين لأجل إعلاء الدين وإقامة شريعة رب العالمين، وفي المقابل يتواصلون ويخططون مع (شفيق) ويتوافقون مع (جبهة الإنقاذ) ويتعاونون مع (الكنيسة) ويمتدحون وينتخبون (السيسي).
لم يقف أمر الضرر الذي لحق الأمة من هذه المدارس المنحرفة عند حَدٍّ معين، فقد وصل الأمر إلى التأثير سلبا على الشباب، حتى جعلوهم فريقين: الأول: فريق تبعهم على الذل والخضوع، فلم تعد عندهم حمية ولا غيرة ولا أدنى استعداد لنصرة هذا الدين، وصاروا يبحثون عن دين بلا مشكلات، فزادوا وجوّدوا أكثر في تحريف الدين وتمييعه. الثاني: فريق من ضعاف النفوس ومرضى القلوب اتخذوا كلامهم حجة على أن الإسلام دينٌ غير قويم وصراطه غير مستقيم، فانسلخوا من الدين منهم من كفر ومنهم من ينتظر؛ بدعوى أن الدين مصادم للفطرة والطبيعة البشرية، وصار أحسنهم حالا من يقول: نحن سنفهم الدين بغير علماء، فنحن رجال وهم رجال، ولم يكتفوا بنبذ علماء العصر، بل أعرضوا عن كتب السابقين قبل الآخرين، وقالوا: سنفسر القرآن بعقولنا، ونشرح السنة بأفهامنا، وما صعب علينا نستفتي فيه قلوبنا!!
إذا كانت السلفية الحكومية قد وصلت إلى هذه الدرجة من الانحدار، فهذا لا يعني طعنا في أصل السلفية
والحقيقة أن الإسلام هو {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وهو الذي قال عنه نبينا: “كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ” أي على الإسلام. وهو دين: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهو دين مقاومة الظلم أيًّا كان مصدره، وهو دين إقامة العدل وإعطاء الحق أيًّا كان صاحبه، وأما اقتصاصهم لحديث “وإن جلد ظهرك وأخذ مالك” من جملة النصوص والمقاصد، فقد ضعّفه كثير من المحَدّثين، وحتى لو افترضنا صحة هذه الجملة، فقد قال ابن حزم ما معناه: هذا للإمام أن يفعله إذا كان بحق، ووقتها يجب علينا الصبر له، أما إن كان بباطل فمعاذ الله أن يأمر رسول الله بالصبر على ذلك، لأنه يصبح بذلك مضادا لصريح القرآن، وهذا التضاد محال أن يحدث بين القرآن والسنة لأن كليهما وحي من الله، بل إن الذي يسلم ماله للأخذ ظلما وظهره للضرب ظلما وهو يقدر على الامتناع من ذلك بأي وجه أمكنه كان معاونا لظالمه على الإثم والعدوان، وهذا حرام بنص القرآن. (انظر الفِصل في الملل والأهواء والنِّحل – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
وإذا كانت السلفية الحكومية قد وصلت إلى هذه الدرجة من الانحدار، فهذا لا يعني طعنا في أصل السلفية، وقد ذكرت طرفا من هذا في مقال بين ابن تيمية والسيسي، والواجب على الشباب السلفي أن يرجع إلى أصول الشريعة وقواعدها (القرآن والسنة بفهم سلف الأمة) وليس بفهم أمن الدولة، كما يجب أن تفسح وسائل الإعلام المجال لعلماء السلفية المعاصرين أمثال الشيخ محمد عبد المقصود والشيخ فوزي السعيد والدكتور حاكم المطيري وأشباههم، حتى يعرف الناس حقيقة ما كان عليه السلف الصالح من تعظيم الدين وإعلاء شأنه والتضحية بالغالي والنفيس من أجله. وإذا كنتُ غالبا ما أختم بقولي: والله من وراء القصد، فإنني اليوم أختم بقولي لهؤلاء المحرفين: والله من ورائكم محيط.
التعليقات