الجاهلية بين الأمس واليوم
عندما يحدثنا القرآن عن شيء اسمه الجاهلية الأولى، نعلم حينها أن هناك جاهلية ثانية أو أكثر، ولعلنا نعتبر ما كان في عصور الأنبياء والمرسلين هو الجاهلية الأولى، وبعد موت نبينا محمد عليه الصلاة والسلام هو الجاهلية الثانية. وعندما يخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام أنه لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شَرٌّ منه، نعلم حينها أن الجاهلية الأولى رغم صلفها وتجبرها ستكون (ولو في بعض جوانبها) أخف جرما من الجاهليات التي تليها. ولقد نقلت لنا كتب السيرة ما فعلته جاهلية قريش بالمسلمين من التنكيل والتعذيب في مكة، وها نحن نعاين ما تفعله جاهلية النظام العالمي بالمسلمين منذ سقوط الخلافة العثمانية وصولا لما يحدث لإخواننا الروهينجا في إقليم أراكان (بورما).
والملاحَظ أن الجاهلية الأولى قد فاقت في تكبرها وتعاليها على الحق رغم الآيات الواضحات والبراهين الساطعات على صدق النبوة، حتى قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} لكن جاهلية اليوم قد تجاوزت بشاعتُها جاهليةَ الأمس في الجوانب الأخلاقية وكسر منظومة القوانين العامة والخاصة، فما كانت جاهلية الأمس تقبل بخفر الجوار ولا الاعتداء على النساء والأطفال، حتى إن فاطمة بنت رسول الله كانت تسبّ الملأ من قريش دون أن تتعرض للأذى، ومن منهم يكسر هذه القواعد كان يشعر بالخزي والعار والندم، في حين أننا نعيش اليوم أسوأ صور الاعتداء على المستأمنين والمستضعفين طالما أنهم مسلمون دون أدنى درجة من الحياء والخجل.
أفاضت كتب السيرة في الحديث عن جرائم كفار قريش لكنها لم تستطع اكتشاف عدد أكبر من ضحيتين بشريتين على مدار أكثر من عشر سنوات عاشها المسلمون في مكة قبل الهجرة
النظام العالمي
يلخص الدكتور عبد الوهاب المسيري حقيقة النظام العالمي الجديد بقوله: منذ أن قام هذا النظام باقتسام العالم بدأ يصول ويجول، وبدلاً من أن ينشر الاستنارة والعدل، انغمس في عمليات إبادة منهجية رشيدة لم يعرفها تاريخ البشر من قبل (إبادة سكان الأمريكتين) وانغمس في عمليات (ترانسفير)، وخاض -في الصين- حرب الأفيون الأولى ثم حرب الأفيون الثانية، حتى يحقق أرباحاً اقتصادية ضخمة، وقام بنهب ثروات الشعوب بشكل منظم لم يعرف له التاريخ مثيلاً، ومع ظهور حركات التحرر الوطني في المستعمرات، قام النظام الإمبريالي العالمي بضربها بعنف شديد، ثم حاول في الخمسينات الالتفاف حولها بأن منح المستعمرات استقلالاً اسمياً، وأسس نظماً سياسية عميلة مستعدة لأن تعطيه امتيازات يفوق عائدها ما كان يحصل عليه من الاستعمار العسكري المباشر. اهـ بمعنى أنه نظام إبادة الشعوب ونهب ثرواتها.
وقد نشرت صحيفة لوتون السويسرية منذ عدة سنوات عن أندريه فيتشاك قوله: “إن السياسة الاستعمارية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى الآن، أدت لمقتل ما بين 50 و55 مليون إنسان، بسبب حروب بدأتها الدول الغربية، أو انقلابات عسكرية صنعها الغرب، أو حروب أهلية تسبب في اندلاعها، بالإضافة إلى مئات الملايين من الضحايا الذين تأثروا بطريق غير مباشرة وماتوا في صمت، ولفَّهم النسيان”.
كفار قريش
أفاضت كتب السيرة واستفاضت في الحديث عن جرائم كفار قريش في حق المسلمين، لكنها لم تستطع اكتشاف عدد أكبر من ضحيتين بشريتين على مدار أكثر من عشر سنوات عاشها المسلمون في مكة قبل الهجرة، حيث لم تقتل قريش إلا ياسر وسُميّة والدا عمار، وتركوا عمار بن ياسر لمجرد أن قال كلمة سيئة في حق النبي عليه الصلاة والسلام، رغم علمهم بأنه قالها مكرها وقلبه مطمئن بالإيمان!
نعم.. إن قريشا بجبروتها كانت تجد من داخلها من يحسب للدماء حسابها، وعندما يردعهم عاقل أو يزجرهم حكيم كانوا يتوقفون من فورهم. فعندما تحداهم أبو ذر الغفاري وأعلن إسلامه في ناديهم، انهالوا عليه ضربا وكادوا يقتلونه حتى خرج عليهم العباس بن عبد المطلب فقال لهم: وَيْلَكُمْ، تَقْتُلُونَ رَجُلًا مِنْ غِفَارَ، وَمَتْجَرُكُمْ وَمَمَرُّكُمْ عَلَى غِفَارَ، فَأَقْلَعُوا عَنه وتركوه، ثم إن أبا ذر كرر التحدي وعاد في اليوم التالي وقال: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وحصل نفس الأمر بالضبط، ولم يتجرؤوا على قتله. ولما جاء عمر بن الخطاب أيضا ليعلن إسلامه أمامهم عند الكعبة، ثم يصارعهم وهم كُثُر حتى تملكه التعب فينهالون عليه ضربا، فيأتي العاص بن وائل فيقول لهم: رجل اختار لنفسه أمراً فماذا تريدون؟ أترون بني عدي بن كعب يسلمون لكم صاحبهم هكذا؟ فما يكون منهم إلا الانصياع. (والقصتان عند البخاري).
ثم إنك لتعجب عندما ترى كيف كان الرجل من المشركين يعلن أن أحد المسلمين في جواره (أي: في حمايته) فلا يقربه أحد مهما كان معاديا لهم. وقد دخل أبو بكر في جوار زيد بن الدَّغِنَّة عندما رآه مهاجرا إلى الحبشة فَرَقَّ له، وقال: مثلك لا يُخرج يا أبا بكر، ودخل عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة بعدما رجع من هجرة الحبشة الأولى، بل دخل النبي عليه الصلاة والسلام نفسه في جوار المطعم بن عدي بعدما منعته قريش من دخول مكة عند عودته من الطائف. ويزداد عجبك عندما تقرأ قصة الحصار والمقاطعة التي امتدت طيلة ثلاث سنوات كاملة، لم يُذكر أن أحدا مات من شدة الجوع أو المرض، بما يعني أنه كان حصارا للضغط وليس للقتل.
بعد 7 أيام من الاعتداءات التي وقعت في 25 أغسطس الماضي، وثقت الأمم المتحدة أعمال اغتصاب جماعي وعمليات قتل شملت أطفالًا وممارسات ضرب وحشي واختفاء بحق مسلمي الروهينجا
مسلمو الروهينجا
تستطيع أخي القارئ التعرف على ملخص قصة مسلمي الروهينجا من خلال الضغط هنا لكن الملفت للنظر في قضيتهم، أن الأمم المتحدة التي توصفهم بأنهم أكثر الأقليات اضطهادا في العالم أصدرت بيانا تستنكر فيه قيام بعض المسلحين الروهينجيين بالهجوم على مراكز أمنية بورمية مما أدى لمقتل 12 جنديا بوذيا، حيث المطلوب أن يُقتل الآلاف ويُحرق الأحياء وتُغتصب النساء وتُهدّم الديار ويُشرّدون جميعا دون أي رد فعل!! ويكفيهم بيانات الشجب والإدانة والقلق التي يتكرم بها المجتمع الدولي بين الحين والحين. وبالطبع طالما أن المُعتدَى عليهم مسلمون.. فلا يسوغ أن تتدخل أي قوى عالمية لوقف النزيف أو حتى تقليله، ولن تتدخل القوى العالمية إلا إذا رأوا بوادر قوة للمسلمين كما حدث قبل ذلك في البوسنة والهرسك.
وبعد 7 أيام من الاعتداءات التي وقعت في 25 أغسطس الماضي، وثقت الأمم المتحدة أعمال اغتصاب جماعي وعمليات قتل شملت أطفالًا وممارسات ضرب وحشي واختفاء بحق مسلمي الروهينجا، وقد نشرت منظمات حقوقية أن عدد القتلى قد زاد على الخمسة آلاف من الرجال والنساء والأطفال على أيدي الجيش البورمي، إضافة لمن يموتون غرقا عند عبور النهر على الحدود البنجالية، كما أعلنت مفوضية اللاجئين أن عدد النازحين قد يزداد إلى 300 ألف خلال الأيام المقبلة، وقد نزح نصف هذا العدد إلى الآن، هذا من جملة مليون و200 الف هم تعداد المسلمين حاليا في إقليم أراكان شمال غرب ميانمار. وبلا أدنى حياء تقوم قوات الجيش البوذي بزرع ألغام أرضية في الطرق التي يسلكها النازحون الفارّون بدينهم.
الظلم بين الماضي والحاضر
هذا المشهد المؤلم يعيد للأذهان قصة أصحاب الأخدود التي حدثنا عنها القرآن الكريم في سورة البروج، وقد ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام كاملة في الحديث المشهور (الملك والغلام والساحر)، وإذا كنا نحن أحيانا نتمنى أن يحكمنا الحجاج بن يوسف الثقفي الذي ضرب الكعبة بالمنجنيق وقتل عبد الله بن الزبير وصلبه وقتل غيره من الصحابة والأئمة العلماء، في مقابل ما نراه من حكام العرب حاليا الذين بلغوا من الخيانة والعمالة درجة لا تكاد تخطئها عين؛ فإن مسلمي الروهينجا يتمنون أن يعيشوا تحت سلطان أبي جهل وأبي لهب وأمية بن خلف بدلا من حياتهم في ظل النظام العالمي المتسلط حاليا على رقاب المسلمين وأعراضهم!! فقد كانت أقصى طموحات قريش في عرضهم الأخير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو أن يعيش المسلمون والمشركون في مكة دون أن يمارس المسلمون أمر الدعوة إلى الإسلام، وعرضوا عليه أن يعيش المسلمون في أمان كامل كما كان يعيش أمية بن أبي الصلت وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل.
وإذا كنتُ في الحقيقة لا أحسن تسطير الشجب أو الإدانة، كما أني لا أحب البكاء ولا الاستجداء. فإني هنا أدعو كل صاحب مال أو سلطان أن يستخدم ماله ونفوذه لإنقاذ من يمكن إنقاذهم من هؤلاء المستضعفين، وليتذكر أبا بكر رضي الله عنه وكيف كان يستخدم ماله لتحرير المسلمين من الرق وتخليصهم من العذاب، كما أحث المسلمين جميعا على الحديث عنهم ونشر قضيتهم وعدم إهمالهم ونسيانهم، وبالطبع أن نكثر من الدعاء لهم بالنصر والصبر، وهذا كله مضمون قوله عليه الصلاة والسلام: “جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم”.
التعليقات