قال تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}(سورة الأعراف).
لم تنقطع الدعوات المنحرفة منذ خلق آدم، ولن تنتهي إلى قيام الساعة، وهي في ذاتها شيء طبيعي داخل حلبة الصراع الممتد بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال، لكنها تخرج عن الإطار الطبيعي عندما يتم إلباسها غير لباسها الحقيقي، فتدخل في سياق التعجب والاستنكار {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، وما الذي يدفع أهل الباطل للتمسح في الحق؟ كيف يقول أهل الفحشاء: الله أمرنا بها؟! هل هو الضعف أم الجبن عن المصارحة؟ فرغم أن أغلب المؤسسات الإعلامية تدعم دعوات الانحراف بشكل واضح.. إلا أننا مازلنا نرى أهل الباطل مصرين على أن يُلْبسوا دعوات الشهوات الزائغة لباس الدعوة لمرضاة الله والتقرب منه؟ والجواب الظاهر لي حاليا: هو أن أصحاب هذه الدعوات يريدون مخاطبة قليلي العلم من أهل الإيمان، وكأنهم يقولون: ارموا الكرة في ملعبهم، والعيار اللي مايصيبش يدوش.
مقالتي هذه تخاطب أولا أهل الإيمان، الملتزمين مع الله بعقد فحواه: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، وعند الخطأ والتقصير والنسيان يقولون: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}، -وهؤلاء هم أنا وأنت وعموم المسلمين الذين لا تخلو حياتهم من الذنوب والآثام-
بداية القصة
بدأت القصة عندما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم، وبما أن إبليس لا يريد أن يُخرج نفسَه من دائرة الملائكة؛ لم يقل: أنا لست من الملائكة، بما يستلزم أنه خارج دائرة الأمر أصلا، بل بدأ في التبرير المنطقي العقلاني: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} كما في الأعراف وسورة (ص)، و{قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} كما في الإسراء، وهذا الجواب في ظاهره يحتاج إلى مناقشة وردٍّ وتفنيد، لكن الله عز وجل لم يفعل ذلك، بل كان الطرد المباشر من رحمته جل وعلا {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}، ولاحظ الفرق بين هذا الجواب الشديد وبين جواب الله للملائكة عندما سألوا عن سبب خلق آدم رغم ما يُنتظر من إفساده في الأرض: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، لماذا لم يقل لإبليس مثلما قال للملائكة {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} من باب تأليف قلبه وتعليمه ما يجهل؟ الجواب باختصار: لأن حال الملائكة يدل على إرادة مرضاته في الحقيقة وإن غابت عنهم الحكمة من هذا الخلق، فهم يسألون عن الحكمة من (خَبَر) ولم يجادلوا في تنفيذ (أَمْر)، أما إبليس فقد بدت عليه علامات الكِبْر والإباء (رفض الأمر). لنتعلم أن الردود المنطقية الفلسفية إذا اختلطت بما يُظهر رفض الأمر الإلاهي والاعتراض عليه.. فإنها لا تُناقَش، إنما تُهمَل ويُقَرَّع صاحبها.
التّعرّي أولى الدعوات الإبليسية
والمتأمل للسياق القرآني لبقية القصة في سورة الأعراف يتوقف عند قوله تعالي: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} فيظن في بادئ الأمر أن {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} كناية عن شيء آخر، فليس هدف إبليس أن يكشف عورةً أو يبدي سوءة لآدم وزوجته، أكيد له هدف آخر، لكن متابعة السياق يجبرك على عدم التزحزح بعيدا عن هذا المعنى، {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} وإذا ذهبت لسورة طه تجد نفس المعنى: {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}، والأعجب أنه سبحانه وهو يعدد لآدم نعم ومميزات المكث في الجنة، قال له: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى}، ليظهر لنا جليا أن الستر مطلب أساس ومقصد آدمي فطري، والعكس بالنسبة لإبليس، حيث التعري ضمن قائمة أولوياته، وإذا رجعنا إلى سياق سورة الأعراف مرة أخرى، لوجدنا التأكيد العام للبشر على المقاصد الربانية وفي مقابلها الأهداف الإبليسية: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}. ثم جاءت الآيات التي في صدر المقال {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا…..}
دعوات التعري هي نفس دعوات الفاحشة
لا تتعجب عندما تقرأ هذه الآيات بهذا الترتيب، فنزع اللباس وكشف العورة يترتب عليه إثارة الغرائز وتحريك النزوات بما يفضي إلى مجتمع شهواني لا ضابط فيه لنزوة لا تجد لجاما يجمحها. وإذا كان الداعون لكشف العورات وإبداء السوءات لم يتخذوا الشيطان عدوا كما أمرنا ربنا جل جلاله، بل وصل بهم الحال لدرجة {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}؛ فمن الطبيعي أن يُلبسوا دعواتهم لباس الطريق للتعرف على الله، ويجعلوها من أمر الله، ويذكرون في سياق تلبيسهم وتدليسهم كلمة لعالم من العلماء لو رآها هذا العالم تُستعمل في هذا السياق لمات كمدا وحسرة على توظيف كلامه بهذا السوء!! وفي أمثال هؤلاء يتنزل قوله تعالى في سورة الكهف: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.
توضيح لابد منه
مقالتي هذه تخاطب أولا أهل الإيمان، الملتزمين مع الله بعقد فحواه: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، وعند الخطأ والتقصير والنسيان يقولون: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}، -وهؤلاء هم أنا وأنت وعموم المسلمين الذين لا تخلو حياتهم من الذنوب والآثام- أُبَيّن لهم فيها خطورة الدعوات التي تطالبهم بنزع الحجاب وكشف العورات. أمّا ما في هذه المقالة من توبيخ وتقريع.. فمحله أولئك الجهلة الذين يتقولون على الله بغير علم فيَضلون ويُضلون الناس، قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} وقال سبحانه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، أما شبهاتهم التي يسمونها أفكارا تحتاج إلى نقاش وتفنيد.. فتُذَكِّرني بالذين جاءوا يجادلون المسلمين في تحريم أكل الميتة، حيث قالوا لهم: الذي قتل الميتة هو الله، أما الذبيحة فأنتم قتلتموها، فكيف تأكلون ما قتلتم أنتم وتتركون ما قتله الله؟! فأجابهم الله سبحانه بالجواب القاطع الحاسم دون مناقشة لهذه التّرّهات: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ}. علما بأن هدفي هو الحكم على الأفكار وليس الأشخاص، فهذا لا يعنيني هنا، ومن ثمّ.. فلا يثورَنّ المتربصون بأنني أحكم على أحد بعينه بأنه من أهل الجنة أو من أهل النار، فهذا تَقَوُّل وتَألِّي على الله أعوذ بالله منه ولا أقتحمه أبدا، بل إني أخشى على نفسي من تقلب القلوب الذي لم يترك أحدا يعيش في مأمن من سوء الخاتمة، وأدعو الله لنفسي ولهؤلاء بأن يهدينا سواء السبيل وأن يثبتني على الحق إلى أن ألقاه.
لا أنشغل كثيرا بمن يصفون كلامي هذا بأنه نوع من الإرهاب الفكري، لأن الإرهاب الفكري والتضييق الإعلامي في الحقيقة إنما يُمارَس ضدنا نحن، بعدما صارت عامة المنابر الإعلامية تحت سيطرة وتحكم أعداء الإسلام
وأخيرا
اعلم يا رعاك الله أن الله عز وجل حفظ هذا الدين حفظا تاما، كما أنه عصم هذه الأمة من أن تضل ضلالا عاما، ولو في أمر واحد فقط من أمور دينها، فما اتفقت عليه الأمة على مر العصور والدهور يُسَمّى (سبيل المؤمنين) وقد حذر الله عز وجل من مخالفته والخروج عنه في صغيرة ولا كبيرة في قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}، وما اختلفوا فيه -وهو كثير- فاختلافهم رحمة بنا ولنا، لكن لا يجوز أن نخترع قولا زائدا على ما اختلفوا فيه، فلا تنخدع بكاتبة تقول لك: [اختلف ابن عباس وابن مسعود في تفسير هذه الآية، وبما أننا غير ملزمين بقول الصحابي، إذن.. دعك من أقوالهم واسمع قولي أنا، لأنك إذا سمعت كلام هؤلاء صرت متخلفا رجعيا معطلا لعقلك، أما إذا سمعت كلامي أنا ستصبح متفتحا تقدميا مستفيدا من عقلك!!] وصارت خديعة إعمال العقل هي حجة كل من أراد التلاعب بأحكام الشريعة وثوابتها.
وقد أجمعت الأمة عن بكرة أبيها -فضلا عن علمائها- بأن جسد المرأة (باستثناء الوجه والكفين) عورة يجب سترها، وهذ أمر معلوم من الدين بالضرورة. وقد ذكرت في مقالي السابق حكم النبي عليه الصلاة والسلام على النساء الكاسيات العاريات بأنهن لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها. والكاسية العارية هي التي تستر بعض جسدها وتكشف البعض، أو تضع على جسدها كله لباسا غير ساتر في الحقيقة، كأن يكون مجسدا أو شفيفا. وكأني بهؤلاء يستغلون فرصة سقوط الكثيرين من المنتسبين للعلم في منزلق تأييد الطواغيت من أجل هدم العلم نفسه وجعل الكلام في الدين كلأً مباحا لكل أحد بحق وبغير حق.
وبعد ذلك لا أنشغل كثيرا بمن يصفون كلامي هذا بأنه نوع من الإرهاب الفكري، لأن الإرهاب الفكري والتضييق الإعلامي في الحقيقة إنما يُمارَس ضدنا نحن، بعدما صارت عامة المنابر الإعلامية تحت سيطرة وتحكم أعداء الإسلام، وأعلمُ يقينا كم تُمارس من ضغوط على أي منصة إعلامية تتيح لنا فرصة الكتابة والتعبير عن آرائنا بحرية وأريحية.
والله من وراء القصد.
التعليقات