هل أتاك حديث شهر شعبان؟

مَضَى رَجَبٌ وَمَا أَحْسَنْتَ فِيهِ *** وَهَذَا شَهْرُ شَعْبَانَ المُبَارَكْ

فَيَا مَنْ ضَيَّعَ الأَوْقَاتَ جَهْلاً *** بِحُرْمَتِهَا أَفِقْ وَاحْذَرْ بَوَارَكْ

فَسَوْفَ تُفَارِقُ اللَّذَّاتِ قَسْرًا *** وَيُخْلِي المَوْتُ كُرْهًا مِنْكَ دَارَكْ

تَدَارَكْ مَا اسْتَطَعْتَ مِنَ الخَطَايَا *** بِتَوْبَةِ مُخْلِصٍ وَاجْعَلْ مَدَارَكْ

عَلَى طَلَبِ السَّلاَمَةِ مِنْ جَحِيمٍ *** فَخَيْرُ ذَوِي الجَرَائِمِ مَنْ تَدَارَكْ

(لطائف المعارف – ابن رجب الحنبلي)

مقدمة (1)

فجأة.. وفي خضم أحداث عظيمة كبيرة على كل المستويات، وجدنا أنفسنا في شهر فاضل له حقه من العظمة والمكانة في ديننا، وقد ترددت في الكتابة عنه بسبب مرور عدة أيام منه، وقد كان ينبغي أن تكون الكتابة سابقة له، لكني استحضرت مقولة (أن تأتي متأخرا خير من ألّا تأتي)، ورغم أن المكتوب والمنشور في هذا الموضوع كثير، إلا أني وجدت أنه من حق عشاق وقراء ومتابعي مدونات الجزيرة أن يجدوا فيها بغيتهم، وألا يفقدوا فيها شيئا من مقصودهم، ولعلي أتمكن في هذا المقال من تذكير ناسٍ أو تنبيه غافلٍ أو إبراز معنى خفي.

مقدمة (2)

لا تعارض أبدا بين الاهتمام بقضايا الأمة العظيمة وبين الاهتمام والتركيز على إصلاح الفرد والأسرة والمجتمع، بل إن المنظومة لابد وأن تكتمل، من حيث سلامة القلب وعفة اللسان واستقامة الجوارح واستقرار الحياة الاجتماعية، ولا ينبغي أن نصطنع نفرة أو أن نختلق فجوة بين الجهاد والسياسة والدعوة، ولا بين النضال والثقافة والعبادة، ولا بين هذه الأمور وبين المشكلات الاجتماعية، بل الواجب أن نسعى ونجتهد في كل المسارات في آن واحد، فالبندقية خطيرة أشد الخطر إذا أمسكها من لا يخاف الله ولا يتقيه، وبذلك تراق الدماء الزكية وتزهق الأرواح البريئة بغير حقها، والسياسة سيف مسلط على من خاض غمارها دون فهم أصول الشريعة وثوابتها، وبذلك يحدث التنازل في غير محله، وتختلط الأوراق بين مداراة الأعداء ومداهنتهم، وكلا من المجاهد والسياسي بحاجة لبيت فيه سكنه وهناؤه وأسرة سعيدة مستقرة.

بيت القصيد

(1) كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم في شعبان مالا يصوم في غيره من الشهور، وقد تعددت الروايات عن عائشة رضي الله عنها في ذلك، فقالت:“ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياماً منه في شعبان” زاد البخاري في رواية:“كان يصوم شعبان كله” ولمسلم في رواية: “كان يصوم شعبان إلا قليلاً” وفي رواية للنسائي: “كان أحب الشهور إليه أن يصومه شعبان كان يصله برمضان”.، وهذا كله يفيد تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام لهذا الشهر، وأن أهم الأعمال فيه هو الصيام.

وقد ذكر العلماء معان متعددة في تفضيل صيام شهر شعبان:

الأول: أنه بمثابة التطوع الذي يسبق الفرض في رمضان مثل السّنّة القبلية للصلاة المفروضة، ويكون صيام ستة أيام من شوال هو التطوع بعد الفرض.

الثاني: أن من كان عليه قضاء أيام من الفرض الماضي ثم تأخر فيها فإنه ينبغي أن ينتهي منها في شعبان قبل دخول رمضان جديد.

الثالث: أن من حصل له تقصير وضعف عن التطوع بالصيام في أشهر العام فإنه يجبر ذلك بإكثار الصيام في شعبان.

الرابع: أنه يكون بمثابة توطين النفس وتهيئتها لصيام رمضان، فإذا أقبل رمضان كانتْ مستعدَّة لصيامه بقوَّة ونشاط، قادِرة عليه دون عناءٍ وتكلُّف، متأهِّبة لغيره مِن العبادات والطاعات

(2) عن أسامة بن زيد قال: “قلتُ: يا رسولَ الله، لم أَرَك تصوم من شهرٍ من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: ذلك شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفَع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يُرفَع عملي وأنا صائم” رواه أبو داود والنسائي.

ولنا هنا وقفتان هامتان:

الأولى: العبادة في غفلة الناس

فقد اعتاد العرب قديما الاهتمام بشهر رجب وتعظيم شأنه، وهو من الأشهر الحرم، وجاء الإسلام بتعظيم شهر رمضان، حيث نزل فيه القرآن، والصيام فيه ركن من أركان الإسلام، ومن ثم يغفل الناس عن شهر شعبان لأنه وقع بين موسمين كبيرين.

قال الحافظ ابنُ رجب رحمه الله: (قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عنه» فيه دليلٌ على استحباب عمارة أوقاتِ غفْلة الناس بالطاعة، وأنَّ ذلك محبوبٌ عندَ الله عزَّ وجلَّ) اهـ

وقد ثبت في صحيح مسلم عن معقل بن يسار-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “العبادة في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ”.

قال النووي: (المراد بالهَرْج هنا الفتنة واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها ويشتغلون عنها، ولا يتفرغ لها إلا أفراد) اهـ

ولذلك كان الفضل عظيما لقيام الليل فيما بين صلاتي العشاء والفجر، حيث الناس في الليل بين نائم أو لاهٍ، كما شُرِعَت صلاة الضحى في الوقت بعد شروق الشمس إلى قبل وقت الظهر، وكان فضلها، لكثرة انشغال الناس أو غفلتهم في هذا الوقت.

وقال ابن رجب: (وفي إحياء الوقتِ المغفول عنه بالطاعة فوائد، منها: أنَّه يكون أخْفى، وإخفاء النوافِل وإسرارها أفضل. ومنها: أنَّه أشقُّ على النفوس، وأفضلُ الأعمال أشقُّها على النفوس، وسببُ ذلك أنَّ النفوس تتأسَّى بما تشاهده مِن أحوال أبناء الجِنس، فإذا كثُرتْ يقظةُ الناس وطاعاتهم كثُر أهلُ الطاعة، لكثرةِ المقتدين بهم، فسهلت الطاعَة، وإذا كثُرتِ الغفلات وأهلها تأسَّى بهم عموم الناس، فيشق على نفوس المتيقظين طاعاتهم، لقلَّة مَن يقتدون بهم فيها. ومنها: أنَّ المنفرد بالطاعة بيْن أهل المعاصي والغفْلة قد يُدْفَعُ به البلاءُ عن الناس كلِّهم، فكأنه يَحميهم ويدافع عنهم) اهـ

الثانية: أوقات رفع الأعمال

الذي تحصل من جملة الأدلة أن الأعمال ترفع وتعرض على الله مرتين يوميا (عند تعاقب ملائكة الليل والنهار في صلاتي الفجر والعصر)، ويومين أسبوعيا (الاثنين والخميس)، وشهر في العام (وهو شهر شعبان).

قال ابن القيم: (رفع الأعمال وعرضها على الله, فإن عمل العام يرفع في شعبان, كما أخبر به الصادق المصدوق أنه شهر ترفع فيه الأعمال، قال: “فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ”، ويعرض عمل الأُسبوع يوم الاثنين والخميس, كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرض عمل اليوم في آخره والليلة في آخرها, كما في حديث أبي موسى الذي رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل”، فهذا الرفع والعرض اليومي أخص من العرض يوم الاثنين والخميس، والعرض فيها أخص من العرض في شعبان، ثم إذا انقضى الأجل رفع العمل كله وعرض على الله وطويت الصحف، وهذا عرض آخر) اهـ

لذلك ينبغي علينا الاهتمام بتحصيل عمل صالح في هذه الأوقات (وخاصة خلال شهر شعبان)، حيث تعرض أعمالنا على الله ونحن في طاعة بحيث يكون ذلك أرجى لعفو الله عنا ومغفرته لنا.

(3) وبالنسبة لما يتعلق بليلة النصف من شعبان.. فرغم ما قيل من أنها هي اليوم الذي نزل فيه الأمر بتحويل القبلة، فإن ذلك لا يضيف لها فضلا جديدا، ويكفي في صيام نهارها أنه أحد أيام البيض التي يستحب صيامها من كل شهر عربي (13 و 14 و 15)، إضافة إلى كونها ضمن أيام شعبان الذي يستحب صيامه كله، وأقوى ما ورد في شأنها (رغم ما فيه من كلام) هو الحديث الذي رواه الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “يَطَّلِعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إِلَّا لِاثْنَيْنِ: مُشَاحِنٍ، وَقَاتِلِ نَفْسٍ” وفي رواية “إلا لمشرك أو مشاحن” والمشاحن: هو صاحب الأحقاد والضغائن ضد المسلمين، ومن ثَمَّ.. نحتاج في هذه الليلة إلى تصفية قلوبنا وتنقيتها من الغل والحقد والحسد والبغضاء، عسى أن نكون فيها من أهل المغفرة.

المصدر: مدونات الجزيرة

التعليقات