ولم نجد له عزمًًا

أولا:

خلق الله عز وجل آدم وأسكنه الجنة وأباح له التمتع بنعيمها وثمارها، وكلَّ ما فيها إلا شجرة واحدة، منعه منها وحرم عليه مجرد قربها، فجاءه الشيطان مجيء الفاسق الواثق، وطرق أبواب قلبه وأذنيه بكل طارق، وأقنعه بأنه على الأقل لابد أن يجرب ويتعرف على الأسباب التي من أجلها مُنِع من هذه الشجرة خاصة، فأكل منها عليه السلام.

هذا المشهد تكرر ذكره في القرآن لأهميته في حياة كل مسلم، وكأن الرسالة من التكرار هي عدم النسيان، ورغم التكرار لعموم المشهد، إلا أننا لا نعدم فائدة خاصة في كل سياق، وفي سياق سورة طه بدأ الله عز وجل المشهد بقوله: “وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا” فانفرد السياق هنا بقوله: “وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا”، وقد ذكر ابن الجوزي في زاد المسير أربعة أقوال في تفسيرها، منها الثالث: أنه لم يكن لآدم عليه السلام عزم على الأكل من الشجرة، بما يعني أنه ذنب عارض لم يكن عازما على فعله، ولكنه ضّعُف أمامه فجأة فوقع فيه، والرابع: أنه لم يكن له عزم على العودة والأكل منها مرة أخرى، أي أنه بعد الخطأ لم يحمل في صدره إصرارا عليه.

ثانيا:

كان هناك رجل يحب ابنة عمه حبا شديدا، وكان قد راودها عن نفسها في الحرام، فرفضت إلا مقابل مبلغ كانت مضطرة إليه، فجمع لها المال وأسلمها إياه، فلما حان اللقاء وخلا بها واقترب منها.. قالت له: “اتَّقِ الله ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقه”، فقام مباشرة عنها وتركها وترك المال لها. (انظر صحيحي البخاري ومسلم – قصة أصحاب الغار)

هذا الرجل وصل إلى أعلى درجات الاشتهاء للذنب، ولم يكن يفصله عنه ويمنعه منه إلا القرار والعزم الأكيد على الفعل، لكن يبدو لي أن قراره وعزمه كانا بدرجة أن موعظة بسيطة أثّرت فيه وحالت بينه وبين مقارفته، ولئن كان في كلام شراح الحديث ما يؤكد معنى أن ترك الذنب يمحو أثر مقدماته، وأن التوبة تجب ما قبلها، إلا أن المعنى الأظهر والأبرز في القصة أن الأمر تحول من كونه ذنبا يستحق فاعله الإثم والعقاب، حتى صار طاعة وقربة استحق صاحبها الأجر والثواب، بل زاد الأمر ليصل حد اعتباره فعله هذا عظيما لدرجة أنه استشفع به وقت أزمة ففرج الله عنه كرامة له على فعله.

ثالثا:

تخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك، تلك الغزوة التي سُمّي جيشها (جيش العسرة) لشدة حاجة المسلمين للعدة والعتاد، وكان كعب جاهزا مستعدا للخروج بدابته وسلاحه، حتى قال كعب عن نفسه: إني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قَبْلَه راحلتان قط، حتى جمعتهما في تلك الغزوة. وظلت نفس كعب تحدثه أن لا داعي للعجلة في الاستعداد، فأنت قادر على التجهّز في أي لحظة، حتى فوجئ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- والصحابة جاهزون ويتحركون!! فظل يقول لنفسه: اليوم أخرج.. غدا أخرج، وسأدركهم. حتى فاتته الغزوة بالكلية، وبعد عودة المسلمين منتصرين، جلس النبي عليه الصلاة والسلام يستقبل الذين لم يخرجوا معه ليسمع أعذارهم، وكان كلّ منهم يخرج بعذر، حيث كان عامتهم من المنافقين، إلا كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، الثلاثة اعترفوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنهم لا عذر لهم، فصدر أمر نبوي بمعاقبتهم وهجرهم، وتعرض الثلاثة لابتلاء شديد حتى كانوا كما وصفهم الله عز وجل “ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ”، ثم نزل القرآن الكريم بإعلان صدق توبتهم وقبولها، بل نزل الأمر بالتشبه بهم والسير على طريقهم حال الزلل والخطا، فقال تعالى: “يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ” (انظر صحيحي البخاري ومسلم – الثلاثة الذين خُلّفوا)

رابعا:

وقَع ماعز بن مالك على امرأة غامدية في الحرام، ثم ما لبث أن جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعترف له بما فعل، وحاول النبي عليه الصلاة والسلام أن يدفعه للتوبة بينه وبين الله دون إقامة الحد طالما أن الذنب وقع سرًّا ولم يطلع عليه أحد، وماعز مُصِرٌّ على أن يقام عليه الحد، وجاءت المرأة هي الأخرى لتعترف بذنبها ويقام عليها الحدّ، وبالفعل أقيم الحد عليهما، وأخبر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه بصدق توبتهما، ونهى عن ذكرهما بسوء. (القصة أيضا في الصحيحين)

موطن الاتفاق

إذا تأملنا هذه المشاهد الأربعة، سنجد أن هناك نقاط اتفاق بينها جميعا، وهي أنها وقائع ذنوب وآثام، وقع فيها مؤمنون صالحون، بل فيهم النبي والولي والصحابي، لكنهم لم يكونوا أصحاب عزم على العصيان أو التكرار، وهذا هو شأن المؤمن عموما، فليس من شرط الإيمان أن يكون العبد معصوما من الذنوب والآثام، فطبيعة البشر الخطأ والنسيان والغفلة، والمؤمن واحد من البشر يعتريه ذلك كما يعتري غيره، بل قد ورد في الحديث «إنَّ الْمُؤْمِنَ خُلِقَ مُفَتَّنًا تَوَّابًا نَسَّاءً، إِذَا ذُكِّرَ ذَكَر» لكنه يختلف عن غيره في أمور ألخصها في نقاط:

1- الأصل في حياة المؤمن هو الالتزام بالطاعة والحرص عليها واجتناب العصيان والاجتهاد في البعد عنه، لكنه لا محالة واقع في الذنب، فيكون ذلك عارضا طارئا عليه.
2- المؤمن حالَ الذنب لا يستمتع ولا يتلذذ به بشكل كامل (حتى وهو يُواقعه) فهو يشعر بصراع داخلي لاستحضاره عاقبة ما يفعل، فحياة قلبه تؤلمه وتؤرقه (أكرر) حتى وهو يفعل الذنب.
3- إذا عرضت للمؤمن موعظة أو تذكرة حال مقارفته للذنب يمتنع ويتوقف، فقلبه سليم مستعد لاستقبال الخير دائما، بخلاف معتاد الفسق الذي لو سمع ألف موعظة لا يرتدع بسبب الران الذي سيطر على قلبه فأغلقه.
4- الأصل أن يستر المؤمن ذنبَه (فالمجاهر على خطر عظيم) ويتوب بينه وبين ربه، لكنه كذلك لا يمتنع عن الاعتراف بالذنب أمام الشيخ أو القاضي (إن كان فيه مصلحة للنفس أو رد حق للغير)، ويبادر بالتوبة منه فلا يصر عليه، لا يسوغه لنفسه بأي تبرير فاسد، ولا يلتمس لنفسه المعاذير التي تساعدها على تكراره أو الوقوع في غيره.
5- المؤمن يصبر ويتحمل إذا ابتلاه الله بسبب ذنوبه.

بالطبع.. هذه ليست دعوة لاقتراف الذنوب والآثام، ولكنها محاولة للوقوف على الطريقة الصحيحة للتعامل معها حال حصولها، وقد حذرنا الله تبارك وتعالى من التمادي في ذلك واتباع خطوات الشيطان.

كما أن باب التوبة مفتوح لمن ارتكب أعظم الذنوب وأكبرها، ولو كان الكفر بالله ومحاربة أنبيائه (ولذلك تفصيل آخر بإذن الله)، علما بأن هذه النقاط المذكورة نسبية كما وكيفا، بمعنى أنها قد تكتمل في عبد بحيث يكون من أفضل الناس إيمانا، وقد تَقِل لدرجة أن تجعل صاحبها أقرب لوصف الفاسق، وكلما كان الشخص أكثر تعهدا لقلبه ومحاسبة لنفسه كلما كان أقوى تحصيلا لها، وكلما كان مستحسنا لحاله متباهيا بعبادته كلما كان أسرع سقوطا وانحدارا.

مصدر المقال: مدونات الجزيرة

التعليقات