“لعلها تكون آخر مكالمة بيني وبينكم – منعوا عني الدواء” هذه كانت آخر كلمة قالها الشيخ البصير (عمر عبد الرحمن) لزوجته من داخل السجون الأمريكية.
القصة
ضاقت أرض الكنانة ذرعاً بعالم من علماء الأزهر الشريف لأنه كان صادعاً بالحق لا يخاف في الله لومة لائم، فخرج منها خائفاً مُطارَدًا مُلاحَقًا، واستقر به المطاف أوائل التسعينات عند “راعية العدالة” في العالم، حدث تفجير في برج التجارة العالمي عام 1993 فأشارت أصابع الاتهام للشيخ الضرير، وبعدما تم اعتقاله والتحقيق معه لم يثبت ضده أي دليل إدانة، ورغم ذلك تم تحويله للمحاكمة! ولم تتمكن المحكمة من إثبات التهمة على الرجل الذي كان عمره 55 عاماً، فقالوا: إذن نعمل بالقرائن.
ما هي القرائن التي اعتمدوها في إدانة الشيخ؟
قالوا: هذا الرجل كان من أشد معارضي عبد الناصر والسادات ومبارك في بلده مصر، وكانت رسالة الدكتوراه الخاصة به تحت عنوان (موقف القرآن من خصومه كما تصوره سورة التوبة)، وبما أن سورة التوبة تحرض المسلمين على قتل غير المسلمين، إذن فالشيخ مُدان في هذه الحادثة رغم أنه استنكرها علناً وقت حدوثها، حتى قال محاميه: إنهم يحاكمون القرآن في شخص الدكتور عمر عبد الرحمن.
علماً بأن رسالة الدكتوراه كان الشيخ قد كتبها قبل الحادث بأكثر من عشرين عاماً، وحصل بها على رسالة العالمية بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، لكن قضاء “راعية العدالة” وجدها دليلاً كافياً على إدانة الشيخ والحكم عليه بالسجن 385 سنة، هذا الرقم التي تلخصه وسائل الإعلام بقولهم (السجن مدى الحياة).
تعجبت مثلكم من طريقة الاستدلال ومن الرقم (385)، حتى سمعت الدكتور عبد الله ابن الشيخ عمر ينقل على لسان المحامي: أنهم حاكموا الشيخ عمر وفق قانون (النّيّات) الموجود في دولة الحريات “راعية العدالة” والذي لم يتم استعماله منذ أكثر من مائتي عام، فأسفر ذلك عن هذه المهزلة.
لم تكتفِ السلطات في أمريكا “راعية العدالة” بالحكم على الشيخ بالسجن مدى الحياة، بل قررت أن تضعه في حبس انفرادي، حبس انفرادي! نعم.. نعم رغم مرضه بعدة أمراض من بينها سرطان البنكرياس والسكري، والروماتيزم والصداع المزمن، وأمراض القلب والضغط وعدم القدرة على الحركة إلا على كرسي متحرك! في حبس انفرادي بلا مرافق، مقطوعة عنه اتصالاته الخارجية (وهو ضرير لا يرى بعينيه) إذا سقط على الأرض لا يستطيع أن يفعل لنفسه شيئًا حتى يتكرم حارس الزنزانة عليه بمساعدته بعد عدة ساعات!
بلغت وسائل التعذيب البدني والنفسي أنهم كانوا يتركونه عاري الجسد تماماً بالساعات في شدة البرد، فضلاً عن تسليط الكاميرات عليه بشكل مستمر حتى وهو يقضي حاجته أو يستحم، ولولا ما كان يحمله الشيخ من كتاب الله في صدره لكانت وفاته حتمية بعد عدة أيام من تركه على هذه الحالة.
دعوني أقرّب لكم الأمر بما حدث معي شخصياً، حيث تم وضعي في زنزانة انفرادية عام 2008 لمدة حوالي 80 يوماً، وأنا شاب بكامل صحتي ليس عندي أيٌّ من الأمراض التي كان الشيخ (رحمه الله) مصاباً بها، وبعد عدة أيام فقط من وضعي هذا كنت أتخيل أشياء عجيبة كأنني في بيت الرعب، ولولا تثبيت الله لي وبعض الوقت الذي كان يسمح لي فيه الحارس بقضائه مع رفقاء الزنزانة المجاورة لكنت قد أُصِبتُ بالجنون.
لاحظوا أني أحدثكم عن فترة لم تزد عن ثمانين يوماً، أما الشيخ فقد ظل على هذه الحالة 24 عاماً كاملة (قريب من 9 آلاف يوم وليلة)، حتى وصلت الوقاحة عند “راعية العدالة” أن أخذوا كل الأدوية الموجودة داخل زنزانة الشيخ قبل أسبوع من وفاته، بالضبط كمن يرفع جهاز التنفس عن مريض الأزمة في غرفة العناية المركزة، ليلقى ربه صابراً محتسباً عن عمر يناهز الثمانين عاماً، يوم السبت الماضي 22 جمادى الأولى 1438هـ الموافق 18 فبراير 2017م، في جريمة قتل متعمد مع سبق الإصرار والترصد.
هذه ليست جريمة ترامب ونظامه كما يظن البعض، ولكنها جريمة تعاقبت عليها أربعة أنظمة متتالية بدأت في أول عهد بيل كلينتون ثم جورج بوش الابن ثم أوباما واختتمت فصولها في عهد ترامب الذي قرر منع الشيخ من الدواء حتى تنتهي فصول المسرحية، ليؤكد لنا ترامب أنه لم يأتِ بجديد في السياسة الأمريكية.
فكل ما فعله أنه فضحهم وأظهر مخبوء أفعالهم، فالاعتداء والإجرام ضد المسلمين متأصل ومتجذر في النظام الأمريكي نفسه، لكنه يختلف من رئيس لآخر في درجة ظهوره وبروزه، وما إعلان جورج بوش بأنها (حرب صليبية) منا ببعيد.
إن “راعية العدالة” التي يسبح بحمدها كثير من المثقفين ومُدّعي الدفاع عن الحقوق والحريات هي التي أعلنت عن إلقائها 25 ألف قذيفة متفجرة على رؤوس المسلمين في سوريا والعراق وأفغانستان وباكستان واليمن والصومال (ليس طيلة تاريخها) ولكن في عام واحد فقط 2015، وهي التي احتلت العراق بدعوى تخليص الشعب العراقي من نظام صدام حسين المستبد، ثم سلمته لإيران وميليشيات الحشد الشعبي (الشيعي الطائفي) الذين يرتكبون أفظع الجرائم بالمسلمين على مرأى ومسمع من العالم كله وبدعم وتأييد قواتها المنتشرة إلى الآن في المنطقة.
وسواء قلنا بأن أسطورة الولايات المتحدة الأمريكية ستسقط في المدى القريب أو البعيد، فإن جرائمها المستمرة في حق المسلمين بدعوى محاربة الإرهاب كفيلة بتجميع كرة ثلج كبيرة من الشباب الغيور الذي يسعى لتغيير الخريطة والانتصار للدماء المعصومة التي أراقتها أمريكا.
هذا الشباب لن ينصاع للقادة والرموز الذين يستخدمون مصطلحات مثل (العنف – الإرهاب) بنفس المفهوم الذي تستخدمها فيه أمريكا للحيلولة بين المظلومين وبين السعي لاسترداد حقوقهم، ولكنهم سينصاعون لقول الحق تبارك وتعالى: “وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ”.
اللهم ارحم الشيخ عمر عبد الرحمن وارفع درجته في عليين، واحشره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
التعليقات