في العام الخامس عشر الهجري كانت معركة القادسية بين المسلمين والفرس، ومما حدث قبل بدايتها أن دخل رِبْعِيّ بن عامر رضي الله عنه على رستم ملك الفرس، فسأله رستم: ما جاء بكم؟
فقال ربعي: الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمَن قَبِلَ منّا ذلك قَبِلْنا ذلك منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدا، حتى نُفضي إلى موعود الله.
قال رستم: وما موعود الله؟ قال ربعي: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي.
تاريخ الرسل والملوك – ابن جرير الطبري
فلسفة العبودية في الإسلام قائمة أساسا على تحرير الإنسان من كل استعباد ليكون عبدا خالصا لخالقه ومولاه، وقد ضرب الله مثلا في سورة الزمر بين رجلين أحدهما فيه شركاء متشاكسون وآخر سَلَمًا لرجل واحد، ليقرب فيه الصورة الذهنية للعبد الذي يخرج من عبادة الله ليصبح عبدا لآلهة شتى يتنازعه كل إله فيهم ليستأثر به لنفسه، فيصبح في النهاية مُمَزّقًا مُشَتّتًا لا يستطيع أن يقوم بحق أحد منهم، بخلاف الآخر الذي يقدر على استرضاء سيده دون مشقة أو عَنَت.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث “تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ” أن الإنسان الذي يحاول الانسلاخ من عبوديته لله عز وجل لابد وحتما سيقع في عبودية أخرى لغيره من المخلوقات، فتتنازعه شهواته ولذاته ليصبح عبدا للمال تارة وعبدا للثياب والمظاهر تارة وعبدا للتملك والسيادة والسلطان تارة وعبدا للشهرة تارة و…. إلى آخر هذه الأشياء التي ارتكز حبها أصلا في الفِطَر كما أن الله زيّنها للنفوس، فينتقل من مجرد إنسان طبيعي يقاوم نفسه في التعلق بهذه الأشياء، ليصير أسيرا لها بشكل كامل حتى صحّ أن يطلق عليه وصف العبد لها.
لذلك.. لا تصدق دعاة الانحلال والفجور عندما يدّعون ويزعمون أنهم دعاة حرية، لأنهم في الحقيقة دعاة انفلات وانسلاخ من العبودية التي يُكرَم صاحبها في الدنيا والآخرة، إلى عبودية الشهوات واللذات التي تجعل الإنسان أشبه بالأنعام بل أَضَلّ.
وثمة ملمح آخر أشار إليه رِبْعِيّ في كلامه، وهو أن عامة الملوك والسادة إنما يرفضون الإسلام لأنه يحرر أتباعهم من عبادتهم لهم (حتى لو كانت لهم آلهة أخرى كالنار التي كان يعبدها الفرس)، لأن دور الكهنة الحقيقي هو إقناع الجماهير بأن طاعةَ الأسياد طاعةٌ للآلهة، حيث إن الكهنة أساسا موظفون عند الأسياد، لذلك قال: لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله.
ثمّ بين رِبْعِيّ أن مصير من سار في طريق العبودية لله يؤول إلى حالين: (النصر أو الشهادة)، فلا وجود في عقولهم لحياة الذل والمهانة، وحيث تمكن الله من قلوبهم رغبا ورهبا فلا تجدهم في صف الطواغيت المتجبرين، بل يتصدرون صفوف مواجهتهم ومقاومتهم، وهذا دأب كل من فهم رسالة رِبْعِيّ هذه، بخلاف من يرددونها كثيرا ثم تراهم في صف كل متكبر جبار!!
وحتى لا يظن إنسان أن وصف العبودية فيه شيء من المهانة أو الانتقاص لقدره، جعله الله عز وجل وصفا لكل من أراد مدحهم والثناء عليهم في كتابه الكريم، فقال عن الملائكة: “بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ” وقال عن عيسى في مقام الرفعة والامتنان والرد على من عظموه فجعلوه إلاها أو ابنا لله: “لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ” وقال عن محمد في حكاية الإسراء به وعروجه للسماء السابعة: “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى” و “فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى” وفي مقام أداء أشرف الوظائف: “وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا” وقال عن المؤمنين الصالحين: “وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا” وبذلك يظهر أن وصف العبودية لله هو أشرف وسام يحصل عليه مخلوق.
وقد تكلم الناس كثيرا في تحرير معنى العبودية، وخلاصة كلامهم متضمن في قوله تعالى: “قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ” بحيث يحرص الإنسان على أن تكون (حركاته وسكناته – كلامه وصمته – يقظته ونومه) كل ذلك داخل إطار ما يرضي الله عز وجل.
ومن أعجب الأحاديث في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: “وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟! فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر”
حيث بيّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن كل عمل يقوم به الإنسان من أمور الدنيا طالما كان منضبطا بضوابط الشرع فهو داخل إطار العبودية، فالرجل يعمل ليتكسب ويعف نفسه وأهله عن السؤال، وينام وهو ينوي الاستيقاظ لصلاة الفجر، ويبيع ويشتري فيما أباح الله، ويتزوج النساء ويعاشرهن بالمعروف، كل ذلك عبادة وقربة شريطة ألا تشغله عن العبادات الأصلية كالصلاة والزكاة والصيام والحج والبر والصلة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك من صور العبادة المعروفة.
وقد يكون الأمرُ عبادةً في وقت وعكسُه عبادةً في وقت آخر، فالصيام في نهار رمضان عبادة كما أن الإفطار والسحور في ليله عبادة أيضا، والصلاة في الجملة من أعظم العبادات لكنها ممنوعة في أوقات حددها الشرع فيكون عدم الصلاة في هذه الأوقات هو العبادة، وهناك عبادات يستطيع المسلم أن يظل متلبسا بها دائما كالذكر والحفاظ على الوضوء.
وهناك عبادة مطلقة دائما وأبدا وهي (العدل) حيث إنه واجب مع القريب والغريب، المسلم والكافر، البر والفاجر، بل إنه واجب حتى مع الظالم نفسه، حتى قيل: (العدل واجب في كل وقت مع كل أحد، والظلم حرام في كل وقت مع كل أحد)، بحيث أن العدل لا يجوز ان يتخلف عن حياة البشر لحظة واحدة، حتى غير البشر، فالله عز وجل يقتص للبهائم من بعضها يوم القيامة قبل أن يصبحوا ترابا.
ومما ينبغي تصحيحه كذلك في مفهوم العبودية، هو أن الإنسان مهما حاول أن يخرج نفسه من دائرة العبودية الشرعية، فإنه لا يستطيع أن يخرجها من دائرة العبودية القدرية، فهو يمرض ويفتقر ويموت في المكان والزمان الذي قدره الله له، بما يعني انه عبد رغم انفه، وقد قال تعالى متحديا: “يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ” لذلك ندعوه للحرص على أن يكون عبدا باختياره فيؤجر ويثاب على أفعاله كما يؤجر ويثاب على ما قُدّر له إذا كان صابرا شاكرا.
وفي النهاية ألفِتُ إلى أن الله عز وجل لم يتركنا وحدنا داخل معترك العبودية الشاق جدا، بل علمنا أن نقول في فاتحة الكتاب: “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ” كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستعين به سبحانه فنقول بعد كل صلاة (عبادة) “اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك”
التعليقات