كنتُ شابا في الرابعة والعشرين من عمري، حديثا في وظيفتي صغيرا في تجارتي، وخوفا من الفتن قررت أن أتزوج.
تقدمت لفتاة أعجبتني، وبعدما أقنعت أباها أنني لا أستطيع دفع مهر لها.. وافق، لكنه قال لي: أعرافنا لا تقبل تزويج البنت بدون شَبْكة. قلت: لا أقدر على ذلك، فقال: يمكن التنازل عن كل شيء إلا الشبكة.
وحال تمكن الحزن مني، طمأنني أحد أصدقائي ذاكرا حديث معناه “إن الله عز وجل يعين الحريص على الزواج بغية العفاف”..
وزارني رجل فأعجبته نوعية الكتب التي أبيعها، لكنه بدلا من أن يشتري مني.. سألني: هل أنت متزوج؟ فرويت له قصتي. فتركني وانصرف، وفي اليوم التالي جاءني وفي يده لفافة ورقية فأعطاها لي وقال: هذا المال تشتري به الشبكة وتتمم زواجك. فقلت: وكيف ومتى أرده لك؟ قال: سوف أتواصل معك ثانية بإذن الله.
وحال رجوع لأمي كي أبشرها، جاءنا اتصال من والد الفتاة يقول: قبلنا بدون الشبكة!!
وبينما تعجب أصدقائي الذين لقيتهم في طريقي وإخوتي في البيت، وسألوا عن هذا الرجل الذي لا أعرفه إلى الآن، إلا أن أمّي رحمها الله قالت: يا بني.. ليس هناك شيء كثير على الله. فَلَخَّصتْ بكلمتها كل شيء، وعرفتُ أن هذا هو الله الذي يبحث عنه الباحثون.
لم تخْلُ لحظة في حياتي من استشعار وجود الله، لكن هناك لحظات لا ينساها الإنسان لأنها فارقة، لذلك ذكرت هذه القصة، فأنا أراه حال ذنوبي وتقصيري في فساد علاقتي بأهلي وأحبابي، في سوء خُلُقِ أولادي، في تعطل سيارتي، في صعوبة عملي، في ضعف ذاكرتي وفهمي، في ذهاب لذة صلاتي، في شرود ذهني وعدم حضور قلبي أثناء ذكري ودعائي، في الهم والحَزَن الذي يصيبني، في العجز والكسل الذي يتملكني.
وبالطبع أراه حال طاعاتي وإقبالي عليه، حيث أكون صبورا نشيطا مرحا منشرح الصدر متفائلا عالي الهمة حاضرَ الذهن سريع الفهم قليل الغضب كثير البذل.
والخلاصة في آيتين: “وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً”، “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً”
وهذه هي الحقيقة التي يحياها كل البشر، فَطِنَ لذلك من فطن “وهم قليل”، وغفل عنه من غفل “وهم الأكثرون”.
يحلو للبعض أن يصف مسألة البحث عن الله بأنها قضية حياة أو موت -ويا ليتها كذلك- فالموت كأسٌ وكل الناس شارِبُهُ، وهذا مما اتفقت عليه البشرية، بل كل المخلوقات. والصحيح أنها قضية نداء الله على خلقه: “يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت”.
ولأن المسألة صعبة وتحتاج إلى صدق وعزم، آثرت أن أذكر أمثلة من صدق الباحثين:
زيد بن عمرو بن نفيل: رجل باحث عن الله صادق في بحثه جَدَّ واجتهد ولم يترك سبيلا إلا سلكه ولا بابا إلا طرقه، فقد كان يعيش وسط قوم يعبدون الأصنام وهو غير مقتنع بأن هذه الحجارة تضر أو تنفع، فذهب إلى أحبار اليهود وسار إلى رهبان النصارى، فلما لم يجد عندهم إلا نصيبا من غضب الله ولعنته فَرَّ منهم، علما بأنه لم يكن يعلم أهل دين غيرهم، لكنه أخذ منهم طرف الخيط وبداية الطريق، وهو أن يكون حنيفا على ملة إبراهيم.
سلمان الفارسي: كان من قوم مجوس يعبدون النار، وكان أبوه أحد سدنة هذه النار، فلما علم أبوه بأنه يبحث عن الله بعيدا عن معبوداتهم الباطلة قيده بالحديد وحبسه، لكنه تمكن من الهرب ووصل إلى رهبان نصراني بالشام وكان هذا الراهب فاسقا، فصبر معه حتى خَلَفَه راهب صالح عابد زاهد، وعند وفاته أرشده أن يذهب إلى راهب مثله بالموصل، وراهب الموصل أرشده إلى مثله بعَمُّورية، حتى أخبره راهب عمورية إلى أن هذا زمن خروج نبي من العرب، فهاجر إلى المدينة وتم بيعه في الطريق وصار عبدا، وتحمل كل هذا حتى لقي النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأسلم بين يديه.
ليت الباحثين عن الله يقرأون قصص هؤلاء كما يقرأون حكايات والت ديزني وروايات شكسبير، وليتهم يصدقونها وأمثالها كما يصدقون لينين وستالين وماركس، فالباحث عن الله في الحقيقة يبحث عن سعادة نفسه في الحياة وبعد الممات، والأصل في ذلك قوله تعالى: “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا”.
وثمة شقٌّ آخر لقضية البحث عن الله، وهو البحث عن الله وقت الشدائد، وعندما نذكر فيه إبراهيم حين أُلقي في النار أو حين ترك زوجته ورضيعها في أرض صحراء لا زرع فيها ولا ماء ولا إنس ولا جان أو حين أمره ربه بذبح ولده، أو يوسف حين ألقاه إخوته في غيابات الجُبِّ، أو موسى وقت أن أدركه فرعونُ وجنودُه، أو مريم حين أتت قومها تحمل غلاما دون أن تتزوج، أو عيسى حين أرادوا قتْلَه وصلْبَه، أو محمدا وصاحبه ثاني اثنين إذ هما في الغار.. ترى المؤمنين يقولون: هؤلاء أنبياء وأنّا لنا أن نكون مثلهم، وترى الكافرين يقولون إن هذا إلا أساطير الأولين!!
فلنذكر غيرهم إذن:
11- هذا عابد بني إسرائيل الذي أغوته بَغِيٌّ لمواقعتها، فلما عجزت عن إيقاعه في حبائلها خرجت من عنده وواقعت راعي غنم وحملت منه، فلما وضعت قالت لقومها هذا الولد ابن العابد وقد واقعني في الحرام، فاعتدوا عليه بالضرب والسب والإهانة وهدم صومعته، فلما أخبروه بالسبب قال لهم أين الغلام؟ فأحضروه له، فتوضأ وصلى ركعتين، وسأله: مَن أبوك؟ فقال الغلام الرضيع: أبي الراعي.
2- وهؤلاء ثلاثة من الرجال أجبرهم المطر أن يدخلوا غارا في الجبل، فنزلت صخرة عظيمة وسدّت عليهم باب الغار، فلم يجدوا سبيلا لتحريكها وفتح باب الغار، فلجأ كل واحد منهم لله ودعا بعمل صالح كان مخلصا فيه، ففرج الله عنهم ما هم فيه وانزاحت الصخرة.
3- وهذا الغلام الشهير بـ “غلام الأخدود” يتعرف على الله عز وجل حال أزمة دعا الله فيها فاستجاب الله له، وتعرض بعدها لمحاولات اغتيال من الملك فكان يدعو الله (اللهم اكفنيهم بما شئت وكيف شئت) فينجيه من جنود الملك، بل يعجز الملك عن قتله إلا بذكر اسم الله رب الغلام أمام الناس جميعا، فيؤمن الناس بالله رب الغلام.
والقصص في ذلك فوق الحصر، وقد يستعين من أراد التوسع بكتاب صحيح القصص النبوي للدكتور عمر الأشقر رحمه الله، لكني فقط أردت أن أقول للباحثين عن الله: إن صدقتم في بحثكم ستجدونه وتتعرفون عليه حتما دون نقاش، بل ستقولون لمن خلفكم مقولة الأعرابي الخالدة: البعرة تدلّ على البعير، والأثر يدلّ على المسير، فسماءٌ ذات أبراج وأرضٌ ذات فجاج، ألا تدل على العليم الخبير.
اقرأوا قصة جبير بن مطعم الذي أسلم عندما سمع آيات من سورة الطور تستنفر قلبه وتستنقذه في نفس الوقت “أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لاَ يُوقِنُونَ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ” لتبقى هذه الآيات صارخة في وجه كل جاحد ومنكر لوجود الله، واقرأوا إن شئتم “وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ”.
والله من وراء القصد
التعليقات