العصبية الحزبية.. أهم إشكالات الحركة الإسلامية

جاء في صحيح البخاري “أن رجلين من المهاجرين والأنصار تشاجرا فَقَالَ الأَنْصَارِي يَا لَلأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِي يَا لَلْمُهَاجِرِينَ”، فَسَمِعَ ذَاكَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَقَالَ “مَا بَالُ دَعْوَى جَاهِلِيَّةٍ؟!”، قَالُوا “يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأنصار”، فَقَالَ “دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ”.

 

أعجب ما في هذا الحديث هو قول النبي صلى الله عليه وسلم “ما بال دعوى جاهلية؟!” حيث إن وصف المهاجرين والأنصار ورد كثيراً في القرآن الكريم والسنة النبوية في معرض المدح، وهم لم يفعلوا أكثر من التداعي والتنادي به، لكن لما كان تناديهم قائما على أساس العصبية له وتقسيم المسلمين بناء عليه سماه النبي عليه الصلاة والسلام “دعوى جاهلية”.

وهذا الداء العضال هو أكثر ما تعاني منه الحركة الإسلامية في العصر الحديث، حيث إن الأحزاب والحركات والجماعات المعاصرة التي تأسست أصلاً لتكون خادمة ونافعة لعموم الأمة تتحول مع مرور الوقت لتصبح خنجراً طاعناً في ظهر هذه الأمة بسبب العصبية التي يتربى أبناؤها عليها فتؤدي للتشرذم والتفرق والتنازع، في وقت تكون الأمة في أمس الحاجة للوحدة والترابط والتآخي! هذا.. بالرغم من عدم وجود جماعة واحدة حالياً تدعي لنفسها ما للمهاجرين والأنصار الأول من فضائل ومكرمات “مع إقراري بجهود هذه الحركات في أمور كثيرة يصعب حصرها”.
ورغم أن الخطاب العام لهذه الجماعات يحمل نَفَسَ إمكانية الخطأ والزلل من الحزب والحركة، وكلهم يردد كلمة الإمام مالك رحمه الله “كُلٌّ يؤخذ من قوله ويُرَدّ إلا صاحب هذا القبر -عليه الصلاة والسلام-“، إلا أن الواقع العملي يقول “نحن معصومون لا نخطئ!”.
حتى وصل الأمر عند الكثيرين من الإسراع لتبرير قول أو فعل ظنا منه أنه بدر عن جماعته أو بعض قياداتها، ثم يبرر نقيضه وعكسه تماما إذا تبرأت الجماعة أو القيادات من هذا القول أو الفعل أوثبت أنه لم يبدر منهم! في مشهد يعيد للأذهان العصبية المذهبية في أبشع صورها، حتى قال قائلهم “كل نصٍّ -قرآن أو سنّة- خالف مذهبنا فهو مؤوّل أو منسوخ”.

 

وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله “وآن لحزب الله أن لا تأخذهم في الله لومةُ لائم، وأن لا يتحيزوا إلى فئة معينة، وأن ينصروا الله ورسوله بكل قول حق -قاله مَن قاله- ولا يكونوا من الذين يقبلون ما قاله طائفتهم وفريقهم كائنا من كان ويردون ما قاله منازعوهم وغير طائفتهم كائنا ما كان فهذه طريقة أهل العصبية وحمية أهل الجاهلية”.
وإذا كان هذا هو حال الحركة الإسلامية التي تقوم بدور القيادة لعموم الأمة، فالأمر ينسحب بصورة أشد قتامة عند بقية المسلمين، سواء العصبية القبلية أو العشائرية أو القومية أو غيرها، وما حال جماهير الرياضة أو مشجعي الفرق الكروية بخاف على أحد.
وأنا هنا لا أريد الاستطراد في تشخيص المرض والتدليل عليه، فهو ظاهر لكل متابع لحال الأمة، بل لا أكون مبالغاً إذا قلت إنه السبب الأساس في كل ما يعانيه المسلمون من الذلة والمهانة والاستضعاف، حيث التنازع على السيادة والقيادة لم يعد بين المسلمين وأعداء دينهم، بل أصبح بين الجماعات والأحزاب الإسلامية وبعضها، على الرغم من التحذير الواضح في قوله تعالى “وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ”، بل وصل الأمر إلى التنازع على القيادة داخل الجماعة الواحدة!

ولذلك عمد النبي -صلى الله عليه وسلم- أول دخوله المدينة إلى المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وتثبيت روابط العقيدة بين الأوس والخزرج، كوقاية وحماية للمجتمع المدني الجديد من هذه الآفة الخطيرة.
والذي يهمني هنا -رغم تشعب الموضوع واتساعه- هو توصيف علاجه والبحث عن وسائل التعافي منه، وأحاول تلخيص ذلك في النقاط التالية:
1- تربية النشء في هذه الحركات على أهمية ووجوب وحدة الأمة وتماسكها، وأن نشر توحيد الله وتقواه في الأرض مرتبط بوحدة أمة الإسلام، حيث قال تعالى “إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ”، وقال سبحانه “وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ”.
2- التأكيد على معنى قوله تعالى “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ”، وقوله صلى الله عليه وسلم “الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ”، وأن الجماعة أو الحركة أو التنظيم إنما هي “جماعة من المسلمين” وليست “جماعة المسلمين”، وأن أعضاءها يرتبطون بعموم أفراد الأمة الإسلامية برباط العقيدة والإيمان الذي يكفل لهم حقوق هذه الروابط كاملة.

3- التذكير الدائم بأن كل مصاب لفرد أو جماعة أخرى من المسلمين إنما هو في الحقيقة مصاب للأمة كلها، يؤلمنا كما يؤلمهم، وهذا واضح في قوله عليه الصلاة والسلام “مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم.. مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى”.
4- نشر المفهوم الصحيح لنصرة الأخ والصديق والحبيب كما في حديث “انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ، قَالَ تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ” وليس بأن تتعصب له في كل حال.
5- العلم بأن ضعف الولاء التام بين أفراد المؤمنين سبب انتشار الفتن والفساد في الأرض، قال تعالى “وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ” قال الشيخ الشعراوي رحمه الله “فالكفار – كما نعلم – وكما تحدثنا الآية الكريمة بعضهم أولياء بعض، فإن لم يتجمع المؤمنون ليترابطوا ويكونوا على قلب رجل واحد، فالكفار يتجمعون بطبيعة كفرهم ومعاداتهم للإسلام، وإن لم يتجمع المسلمون بالترابط نجد قول الحق تحذيراً لهم من هذا إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ”.
اللهم وحد صفوفنا وألف بين قلوبنا وانصرنا على عدوك وعدونا.


التعليقات