كثيرة هي الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تربط بين نبي الله إبراهيم وبين نبينا محمد (عليهما أفضل الصلاة وأتم التسليم)،ولعل أظهر هذه الآيات قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}، وقوله سبحانه: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، وقوله جل وعلا: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ}.
فقد بينت هذه الآيات قوة العلاقة من حيث الولاية والاتباع والاقتداء بين خاتم المرسلين وأُمّتِه وبين أبي الأنبياء وأتباعه.
وإذا كانت سيرةُ الرجُلِ الأُمّة (إبراهيم) عليه الصلاة والسلام مليئةً بالعبر والعظات، فإنها كذلك تكاد تسيطر على المحطات الهامة في حياة كل مسلم.
وقد استحضرت هنا أربعة أمور يتضح من خلالها مكانة هذا النبي العظيم في حياة المسلمين.
1- الصلاة
حيث القبلة التي يتوجه إليها المسلم في صلواته كلها -وهي الكعبة المشرفة- قد بناها إبراهيم وولده إسماعيل ورفعا قواعدها وطَهَّراها للحجاج والمعتكفين والمصلين.
قال تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} ، {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ}.
ومن ثم.. فالمسلم يستحضر ذكر إبراهيم خمس مرات على الأقل كل يوم خلال أدائه الصلوات المفروضة، ويستحضر أثناء ذلك كَمَّ الرجس والدنس الذي يجب تطهير بلاد المسلمين منه.
٢- الحج
حيث ترك إبراهيم زوجته هاجر مع رضيعها إسماعيل في صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء ولا إنس ولا مخلوق، فكان سعيها بين الصفا والمروة، وكان نبع ماء زمزم المبارك، وكانت الدروس العظيمة في حسن الظن بالله، والتعلق به والتوكل عليه والاستعانة به وسط حالة نادرة من التعظيم والاستجابة لأمر الله عز وجل، مهما كانت أوامره شديدة وثقيلة على النفس. (والقصة بطولها قد رواها البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما).
ثم يكون التوجيه بتنفيذ الأمر دون الانشغال بالنتيجة {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} فعليك الأذان وعلينا البلاغ، حتى إننا نرى الآن ملايين كل عام يتوجهون إلى البيت الحرام استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام، الذي ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت.
3- الأضحية
فقد وهب اللهُ عز وجل إسماعيلَ لإبراهيم بعدما كبر سنُّه {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ}، وعندما يكبر الولد بعض الشيء، ويصل إلى سِنِّ الجري واللعب والتمييز أمام أبيه.. يأمره بذبح الولد (لا يقبضه وهو القادر على ذلك) {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ} “ورؤيا الأنبياء وحي”؛ فيستجيب الاثنان مباشرة، ولما حان وقت التنفيذ {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} جاء الفداء من الله {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}
والسؤال الذي يقفز إلى الأذهان عند تأمل هذه القصة
ماذا يفعل أحدنا إذا أمره ربه بذبح ولده؟
وإذا كنا نأبى أحيانا إرسال أبنائنا لساحات الجهاد خوفا عليهم من الشهادة في سبيل الله.. فهل كنا سنقبل أن نقتلهم بأيدينا؟
الجواب صعب إلا على من يَسَّرَهُ الله عليه.
4- الثورة
من الجوانب التي يغفل -أو يتغافل- عنها كثيرون ممن تناولوا قصة الخليل عليه الصلاة والسلام، هو موضوع ثورته على الباطل الذي كان متفشيا في زمانه، رغم أن السياق القرءاني قد حدثنا عن عدة مواقف ثورية في كثير من السور والآيات الكريمة.
تكسير الأصنام: والسياق القرآني لهذه الواقعة وخاصة في سورة الأنبياء، يدل على أنه كان وحيدا صغيرا مستضعفا، ولنتأمل قوله لقومه {وتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} وما فيه من الشجاعة والتحدي وهو مازال فتًا، ونفذ بالفعل دون تردد {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إلَيْهِ يَرْجِعُونَ} وعندما وجد القوم آلهتهم مُحَطَّمة مُكَسَّرة: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}، فلو كان هناك أحد يذكرهم بالسوء أكبر من هذا الفتى أو غيره لأشاورا إليه بهذه الفعلة، لكنهم لم يجدوا أحدا يعيب هذه المعبودات الباطلة سوى (فتى يقال له إبراهيم).
إن هذا الفتى قد خرج على النظام العالمي الذي يستعبد الإنسان لآلهة باطلة لا تضر ولا تنفع، ودعا صراحة وعلنا ل(عدل) نظام الحكم في بلاده قائلا: {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} ثم يبين أوصاف الإله الحق {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}.
بل قد تبرأ هو وأتباعه من قومهم وكفروا بهم وبمعبوداتهم كما في سورة الممتحنة {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}
مواجهة الطاغية: كما في سياق الآيات في سورة البقرة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} حيث ظن المغبون أنه عندما يأتي برجلين ويقتل أحدهما ويترك الآخر، أنه بذلك يحيي ويميت!! فكان الرد الحاسم المفحم {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ}
مناظرة القوم: وفي مشهد ثالث يناظر قومه بالعقل والتأمل في الكون في سياق رائع بديع تذكره لنا سورة الأنعام، حيث الشمس والقمر والليل، وهي أشياء لها أثرها في هذا الكون، أوَليست أولى بالعبادة من هذه الحجارة التي لا تحرك ساكنا في نفسها فضلا عن غيرها؟!
ويؤكد لهم هدايته وضلالهم، وأنه لا يخاف منهم ولا من معبوداتهم، حتى يختم مناظرته لهم بقوله {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ۚ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ويكون الجواب الرباني الواضح القاطع {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}.
اللهم اهدنا وارزقنا الأمن في أوطاننا.
التعليقات