نموذج الشخص الذي كتب عن حد رجم الزاني محاولا في منشورات تمتليء بأخطاء في أساسيات العلوم الشرعية أن ينفي صلة حد الرجم بالشرع، يطرح إشكالية الطرح الذي يحاول تقديم نفسه باعتباره تجديديا لما يسمى “التراث”. والاسم نفسه -التراث- اسم مدلس يعطي الانطباع بأن الصراع هو بين القديم والجديد، أو يحاول تقييم مفردات الشريعة المتنوعة سواء كانت كليات أو جزئيات على أساس زمني -وهو ما يجعلها أكثر هشاشة وقابلية للطعن والإسقاط- لا على أساس علاقتها الحقيقية بالوحي والنبوة. لذلك فإن المعترضين على هذا الطرح في العادة لا يرفضون أصل “التجديد”، إنما مشكلتهم في المنطلقات وطريقة المعالجة التي تعتدي على الأصول التي هي خارج نطاق التجديد.
طبعا الكلام عن التجديد الفقهي وإعادة فرز الموروث الفقهي مغرٍ لأسباب مفهومة، منها أنه يشعر الشخص بالذكاء والعبقرية والاختلاف عن الآخرين (القطيع) لأنه يقوم بالتشكيك في الموروث، وهي نزعة مغرية ورائجة في ظل أوضاع التفكك والانهيار الحضاري كالذي نعيشه. ومنها أن التشكيك في الشريعة والفقه دون تدقيق أو تحقيق لم يعد شيئا معيبا، والخطأ فيه ليس محرجا ولا مسقطا للمخطيء، في مقابل صنم جديد يعبده الناس اليوم ويقدمون له القرابين من معتقداتهم يسمى العلم. وفي حضرة هذا الصنم، يكفي أن تشكك في نظرية التطور مثلا لتُلتهم التهاما. وفي حضرة هذا الصنم، تصبح الأوراق البحثية والدراسات المعملية والاجتماعية حقائق صامدة لها رهبة في النفوس تحتاج معها لجرأة للاعتراض عليها ومناقشتها. بالتالي فإن القول بأن حد الرجم مثلا ليس له علاقة بالشريعة لا يعيبك، بينما يعيبك أن تسمي فعل قوم لوط شذوذا جنسيا، لأن اسمها قد صار مثلية جنسية، وهي شيء يولد الناس به وليس مرضا يا أحمق! هذا هو عالم اليوم للأسف.
المشكلة في هذا الطرح “التجديدي” هو:
– أنه ناتج تحت حالة استضعاف وتفكك حضاري واضطهاد سياسي شديد، لذلك فهو لا يمتلك صفات “الذاتية” أو “العضوية” الكافية لتجعله سليما في منطلقه ومساره. بالضبط كالفارق بين أن تكتب مراجعات فكرية في معتقل تحت حكم طاغوت، وبين أن تكتبها وأنت آمن في بيتك في ظل حكم عادل. فبطبيعة الحال فإن الواقع العالمي اليوم يدفعك دفعا لتبني وجهات نظر ذلك الطرح. فأنت بالتأكيد ستكون أكثر قبولا في عالم اليوم لو تبنيت أن حد الرجم غير موجود، مقابل رفضك إنسانيا لو أثبته واعتقدت به. نفس الكلام على الجهاد وعلى قطع يد السارق وعلى حد الردة، بغض النظر الآن عن الصحة والخطأ. فبالتالي هناك دفع نفسي و”جائزة” لتبني طروحات بعينها، مقابل عبء وثمن لتحمل الطروحات الآخرى،
فالظروف الواقعية اليوم غير مؤهلة لإنتاج طرح تجديد حقيقي سليم.
– المشكلة الثانية -وهي إثبات للنقطة الأولى- أن خط التجديد وإعادة مناقشة الموروث الفقهي الحضاري يسير دائما في خط واحد عمليا بحيث ينتج الريبة والشك فيه، وهو إعادة تشكيل الفقه والمعتقد بحيث يكون أكثر تلائما مع معايير الناس في عالم اليوم. التجديد في العادة يتناول هذه الأمور:
– الانتقاص من منظمة العقوبات والحدود الإسلامية تحديدا في نقاط اختلافها مع القوانين المعاصرة، وفي تعريف حدود الحرية وماهية الجريمة المستحقة للعقوبة
– العلاقة بين المسلمين والكفار، وموضوع حرية العقيدة، وإعادة تعريف وصف الكفر، بما يجعلنا أكثر قبولا للتعايش معهم
– مفاهيم الجهاد بنوعيه، ومناقشة منطلقات الجهاد الموروثة مثل الكفر: هل هو سبب صالح في ذاته لقتال الناس
– الاقتصاد والمعاملات المالية، ولي أعناق النصوص، واستعمال شواذ القواعد، أو اعتساف القواعد العامة في التيسير على المسلمين، من أجل القبول والتوافق مع منظومة الربا العالمية التي تفرض نفسها علينا فرضا
هذه أبرز المحاور التي يتناولها الطرح التجديدي، وهي كما ترى لها خط جامع واحد:
مزيد من القدرة على التقارب والتوافق مع العالم المحيط بنا كمسلمين، وجعل المسلم “إنسانا” أكثر بحيث يمكن قبوله عالميا وغربيا.
هذا الخط يجعلك تتشكك وتتساءل: لماذا يتصادف دائما أن يسير التجديد في ذلك الاتجاه؟ لماذا لا نرى العكس ولو على سبيل الصدفة؟ لماذا نرى مثلا القول بأن الموروث الفقهي في نظرته وتعريفه للكافر وللعلاقة معه فيه إشكاليات، ولا نرى مثلا القول -وهذا مجرد مثال لا لإقرار شيء- بأن الشروط الموجودة في تراثنا الفقهي لمحاربة الكفار وعدم استهداف بعضهم كالنساء والأطفال والشيوخ ورجال الدين، تحتاج لمراجعة لعدم صلاحيتها لضرورات المقاومة والجهاد اليوم، وقد اختلفت طبيعة المجتمعات البشرية عما كانت عليه منذ ألف عام؟
لماذا يطعنون في علم الحديث والرواية، ويستدعون خلافات المتواتر والآحاد، ويعيدون بكل حماسة تحقيق الأحاديث التي تتناول الحدود أو الردة أو قتال الكفار، ولا يفعلون ذلك مع حديث حزن النبي عندما مرت جنازة يهودي عليه فحزن أن نفسا لم تمت على الإسلام؟ هل أحاديث القتال والكفر والحدود تحتاج إلى إعادة تحقيق ونظر، وأحاديث الرحمة والإنسانية جميلة ومقبولة؟ هل علم الحديث والرواية غير صالح مع الأولى، عظيم وجميل مع الثانية؟
إذا أنت غير قادر بهذا المنحى على أن تقنعني بأن ذلك تجديد. أنت تدفعني دفعا للاعتقاد بأن هذا محض هوى وانسحاق نفسي. ولينضبط المعنى في كل ما سبق فلا بد من التأكيد على أن التجديد مطلوب، وأن الموروث الفقهي به الكثير مما يحتاج التنقيح فعلا، وأن كثيرا من المعتقدات والموروثات التي ورثتها الحركة الإسلامية المعاصرة تحتاج لإعادة نظر فعلا، لكن ليس بتلك الطريقة، ولا تحت هذا العنوان الكاذب.
التعليقات