مأساة المعتقلين

يرجى ملاحظة أن هذه المقالة من المقالات القديمة التي لا يتطابق تاريخ نشرها على الموقع مع تاريخ نشرها الفعلي

أكبر مآساة ناتجة عن الصراع الحالي هي قضية المعتقلين بكل المآسي الإنسانية والحقوقية المرتبطة بها. ويعقّد تلك القضية أمور:

– تعقد الصراع مع النظام وعدم وجود رؤية للخروج من ذلك الصراع

– توحش النظام وكسره للقواعد التي تعامل بها مع الإسلاميين لسنين

– توقف الحراك تقريبا

– الصراع الإخواني الداخلي – والذين هم أكبر كتلة كما وإمكانات في مواجهة النظام- الذي أصبح علنيا، وما ينتج عنه بطبيعة الحال من المزيد من الإحباط واليأس الداخلي في قواعد الجماعة ودوائرها. خصوصا أن الإخوان تنظيم اعتمد على تماسكه لعقود على نسيج تنظيمي-اجتماعي عناصره الولاء والثقة المطلقة والترابط الأخوي والحاضنة الاجتماعية، بأكثر بكثير من كونه اعتمد على أرضية فكرية عقدية صلبة تكتسب قيمتها من ذاتها لا من انتماءها للأشخاص والجماعة. هذا المزيج يتفكك -في حدث تاريخي في التنظيم- بسبب عدم قدرة التنظيم على الاستمرار في أنشطته التنظيمية، وغياب المناشط التي كانت تحتوي وتنظم الناس وتمتص طاقاتهم وولاءاتهم، وتفكك العنصر البشري بالاعتقال والقتل والتشريد والاختباء، وانهيار ثقة الكثيرين وانكشاف مستوى القيادات التي أعطتها القواعد ثقتها وولاءها، وأخيرا ظهور الصراع الداخلي للسطح.

– حساسية مناقشة الموضوع. فأسهل شيء أن يتهم شخص ما أنه يتكلم من مقعده الوثير بالخارج بشعارات رافضة للاستسلام والتراجع، وأنه في الحقيقة لا يشعر بمعاناة من هم بالداخل.

هذه الأمور مجتمعة تصنع حالة من اليأس والشعور بالإفلاس في مواجهة أزمة المعتقلين. فالمحصلة النهائية تطرح نفسها في الواقع على هيئة أسئلة مثل:

– ما الجدوى من كل ذلك؟ ومن أجل ماذا قدم الواقع آلاف القتلى وعشرات الآلاف من المعتقلين؟ هل كان فشل الرؤية والصراع الداخلي يستحق أن ندفع له هذا الثمن؟

– وما مدى قابلية ذلك الوضع للاستمرار؟

– وفي حالة فشل الحراك وأن يأتي الواقع برؤية لإسقاط النظام أو تحريك الواقع ضده، فما الذي سيمكن فعله لتخليص المعتقلين وحل قضيتهم، وليكن ما يكون بعد ذلك؟

الأسئلة بدورها بدأت تشجع على خروج أطروحات في الواقع لم تكن موجودة من عامين، تبحث عن الحل بأي طريقة. لسان حال ومقال الكثيرين أنه: فلنعلن الاستسلام في المعركة للنظام لو كان ذلك يعني خروج المعتقلين.

وأيضا، فالهجوم على المحاولات الخجولة لعمل أي فعاليات ثورية صار عاديا جدا، باعتبار أنه عند الكثيرين نوع من الاستمرار في الغباء -وهو أحيانا يكون كذلك على مستوى الممارسة والتفاصيل- دون ثمن سوى المزيد من المآسي دون جدوى.

وقد صار الأمر كذلك، فهناك نقاط هامة يجب وضعها في الحسبان:

– لست ضد مبدأ التسليم بالهزيمة والتراجع في مقابل حفظ ما بقي من الدماء والأرواح ومراعاة المصلحة الشرعية والواقعية، فقط إذا كان ذلك ممكنا. لكن الواقع أن ذلك الطرح هو مجرد تعبير عن حالة الهزيمة النفسية واليأس وغياب الرؤية التي لا تجد متنفسا غير طرح الحلول اليائسة، أكثر مما هو مخرج حقيقي. والسبب واضح جدا: النظام غير قابل لعمل تلك المقايضة.

– علاقة الاعتقال والتعذيب كأداة مع النظام الطاغوتي المصري خاصة دون غيره من الأنظمة -الخليجية مثلا – علاقة جوهرية جدا. الاعتقال والقمع ليس مجرد كارت عنده يستعمله ليمارس به ضغوطات جزئية محدودة زمانيا أو ظرفيا. بل هو سياسة ممنهجة تاريخية وعمود من عواميد النظام. هناك أنظمة طاغوتية دكتاتورية أخرى تستعمل مزيجا من القمع السياسي الأمني مع توفير حالة عامة من الرخاء الاقتصادي والمعيشي والأمني للسيطرة على الحكم. النظام المصري تاريخيا يعتمد على القمع الأمني المفرط كجوهر لوجوده، والنماذج الأخرة في الحكم لا تصلح للسيطرة على الواقع المصري لخصائصه المختلفة عن غيره. فتصور أن مشكلة المعتقلين قابلة للحل الحقيقي هو مجرد وهم للأسف، أجمل من أن يكون حقيقة.

– فوق أن كل ذلك ليس حلا، فأسوأ ما في الأمر والكارثي فيه فعلا، هو أن الفاجعة الحقيقية التي يمكن أن تنزل بكثير من المعتقلين، هي أن تخبره أن كل ما قدمه لم يكن ذا ثمن وكان مجرد عبث. أن تقول له الآن: لننهي هذا العبث عديم الجدوى ونخرجك بأي ثمن.

إن تماسك الإنسان في مواجهة البلايا التي تصيبه يتأتى في الحقيقة من قوته النفسية بأكثر مما يتأتى من قوته البدنية. والقوة النفسية هي الوجه الآخر للإيمان. إن الإيمان بأي فكرة يمكنه أن يكسبك طاقة هائلة تجعلك تتحمل الجلد بآلاف السياط، التي لن تتحمل منها سوطا واحدا دون وجود قيمة نفسية أو فكرة تساعدك على التحمل. بل إن التعذيب الشنيع الذي يمارسه النظام يتجاوز مبكرا حدود الطاقة البشرية لأكثر البشر صحة وقوة، وكل ما يحفظ سلامة المعتقل النفسية والعقلية بعد ذلك المستوى البدني الضعيف المحدود هو الفكرة القوية.

لذلك، انكسار الفكرة والشعور بعبثية ما فات أشد كثيرا جدا من قسوة ما فات ومما هو قادم، وذلك بالنسبة لكثيرين على الأقل. والانكسار والهزيمة والشعور بالخطأ والغباء في المسار الذي سار فيه الإنسان كفيل أن يخرب حياة الإنسان بقية عمره. بينما الألم المادي على قسوته يندمل كثير منه بفعل الزمن.
ومراجعات الجماعة الإسلامية في السجون أيام مبارك خلفت مآسي من تلك النوعية: معتقلون أفنوا شبابهم في السجون يصبرهم الإيمان بصحة الموقف ورسوخ المعتقد، تأتي لهم قياداتهم لتقول لهم لقد كنا مخطئين. شيء يدفع العاقل للجنون.

– في المقابل، الواقع يقول أن الضغط في الواقع بكل أشكاله الإعلامية والحقوقية والثورية، ما زال هو الورقة الضاغطة على النظام، لا التنازل عن ذلك. وفي فتح الزيارة اليوم في العقرب بعد التقرير الذي نشر عنه درس في ذلك (وليس ذلك شيء ضروري دائما، بل هي جولات في معركة).

الخلاصة: الاستسلام مقبول كخيار تكتيكي وليس كمجرد إعلان يائس عن الهزيمة النفسية، وهذا يعني ضرورة أن يكون له ثمن حقيقي وممكن حتى يتم طرحه كخيار. والضغط الإعلامي الواقعي قد يكون أنفع مما يتصور البعض لمن هم بالداخل. والحل لقضية المعتلقين ينبغي أن ينطلق من الرؤية وفهم طبيعة النظام، لا من الألم النفسي واليأس.


التعليقات