عجائب الذكر وعظائم الأجر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:-

لست هنا بصدد الحديث عن كل فضائل ذكر الله [فهذا أمر يطول]، ولكني أقصد الإشارة للصائمين في رمضان على أهمية تعمير أوقاتهم بالذكر، استفادة من المعنى الذي قاله ابن القيم رحمه الله: (فأفضل الصُّوام أكثرهم ذكرا لله عز وجل في صومهم)، حيث بين أن أفضل أهل كل عبادة أكثرهم ذكرا لله عز وجل فيها.

والأصل أن الصائم منهي عن اللغو والرفث والكلام الذي لا فائدة منه، فضلا عن الكلام المحرم كالغيبة والنميمة والفحش والسب وغير ذلك، وهو لا يستطيع بطبيعة الحال أن يوقف لسانه عن الحركة، فكان لزاما أن يحركه بما فيه الخير له عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ”.

وهنا يحتاج أن يتذكر فضل الذكر وعظمة الأجر المتعلق به حتى يحقق أكبر استفادة ممكنة من شهر رمضان المبارك.

من أشد ما يُتعجب منه في شأن الذكر هو الحديث الذي أخرجه أحمد في المسند والترمذي وابن ماجه في السنن وغيرهم عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- “أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعمَالِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى”

وهذا الحديث قد صححه جمع من أهل العلم مثل البغوي، والمنذري، والعراقي، والهيثمي، والحاكم، والنووي؛ ومن المعاصرين الألباني، والوادعي، والأرنؤوط.

قال العز ابن عبد السلام في قواعده: (هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ، بَلْ قَدْ يَأْجُرُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قَلِيلِ الْأَعْمَالِ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْجُرُ عَلَى كَثِيرِهَا، فَإِذًا الثَّوَابُ يَتَرَتَّبُ عَلَى تَفَاوُتِ الرُّتَبِ فِي الشَّرَفِ) اهـ

وقال المناوي في فيض القدير: (فإن جَمِيع الْعِبَادَات من الْإِنْفَاق ومقاتلة الْعَدو وَغَيرهمَا وَسَائِل ووسائط يُتَقرَّب بهَا إِلَى الله وَالذكر هُوَ الْمَقْصُود الْأَعْظَم وَالْقلب الَّذِي تَدور عَلَيْهِ رَحا جَمِيع الْأَدْيَان) اهـ

ومما يثير العجب أيضا في نفس القارئ قوله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُون} [العنكبوت:45]

وللعلماء في هذه الآية أقوال، أذكر منها قولين :

الأول: قال ابن كثير رحمه الله: “يَعْنِي: أَنَّ الصَّلَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى شَيْئَيْنِ: عَلَى تَرْكِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، أَيْ: إِنَّ مُوَاظَبَتَهَا تَحْمِلُ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ.

وَتَشْتَمِلُ الصَّلَاةُ أَيْضًا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الْأَكْبَرُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) أَيْ: أَعْظَمُ مِنَ الْأَوَّلِ” اهـ

وذكر ابن القيم نفس المعنى عن ابن تيمية (رحمة الله عليهم جميعا)

والثاني: ولذكر الله تعالى أفضل من كل شيء سواه، وهذا مذهب أبي الدرداء، وسلمان، وقتادة. (ذكره ابن الجوزي في زاد المسير)

وقال ابن القيم: (وقال ابن زيد وقتادة: معناه: ولذكر الله أكبر من كل شيء.

وقيل لسلمان: أي الأعمال أفضل؟ فقال للسائل: أما تقرأ القرآن {ولذكر الله أكبر} ويشهد لهذا حديث أبي الدرداء المتقدم «ألا أنبئكم بخير أعمالكم» الحديث) اهـ

ثالث عجائب أمر الذكر قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُون} [البقرة:152]

وفي الحديث المتفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وما في نص الآية والحديث من معان ظاهرة ما يغني عن شرحهما، لكني فقط أذكر قصة تعين على تدبر المعنى المراد، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ» . قَالَ: وَذُكِرْتُ هُنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ وَجَعَلَ يَبْكِي (رضي الله عنه).

والشاهد من القصة قول أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (وَذُكِرْتُ هُنَاكَ؟) وفي رواية (وسَمَّانِي لَكَ رَبِّي؟) فجعل يبكي لأن الله عز وجل ذكره وسماه.

من هنا ننتبه جيدا لعظم الجزاء المذكور في الآية {أَذْكُرْكُمْ} وفي الحديث “ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي” ، “ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ”.

قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35] وقوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُون} [الأنفال:45]

وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي أرشدت إلى أهمية كون الذكر (كثيرا) في حياة المسلم

قال النووي في كتاب الأذكار: (وسئل الشيخ الإِمام أبو عمرو ابن الصَّلاح -رحمه الله- عن الْقَدْرِ الذي يصيرُ به من {الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ}؟ فقال: إذا واظبَ على الأذكار المأثورة المثبتة صباحًا ومساءً، وفي الأوقات والأحوال المختلفة، ليلاً ونهاراً، كان من {الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} اهـ

ولو أن أحدنا نظر بعين التأمل في كتيب صغير الحجم مما صنف في الأذكار الموظفة ككتيب (حصن المسلم) لوجد أن هذه الأذكار كفيلة بملئ حياة المسلم وشغل لسانه بشكل دائم، فكيف إذا وضعنا معها أنواع الذكر والأدعية المطلقة؟

قال النووي رحمه الله: (قال الإِمامُ أبو الحسن الواحديّ: قال ابن عباس: المراد يذكرون الله في أدبار الصلوات، وغدوّاً وعشيّاً، وفي المضاجع، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا أو راح من منزله ذكرَ الله تعالى.

وقال مجاهد: لا يكونُ من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً.) اهـ

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون} [آل عمران:135] حيث إن المؤمن إذا كان كثير الذكر فلابد أن يكون سريع التوبة والاستغفار من الذنوب.

قال ابن القيم في حادي الأرواح: (فأخبر أنه أعد الجنة للمتقين دون غيرهم ثم ذكر أوصاف المتقين) إلى أن قال: (ثم ذكر حالهم بينهم وبين ربهم في ذنوبهم وأنها إذا صارت منهم قابلوها بذكر الله والتوبة والاستغفار وترك الإصرار) اهـ

وقال في الوابل الصيب وهو يعدد فوائد الذكر: (أنه يورثه الإنابة، وهي الرجوع إلى الله عز وجل، فمتى أكثر الرجوع إليه بذكره أورثه ذلك رجوعه بقلبه إليه في كل أحواله) اهـ

فالذاكر بين أن يعصمه ذكره من الوقوع في المعصية، وبين أن يكون ذكره سببا في التعجيل بالتوبة والاستغفار.

قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب} [الرعد:28]

قال السعدي في تفسيره: (ثم ذكر تعالى علامة المؤمنين فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} أي: يزول قلقها واضطرابها، وتحضرها أفراحها ولذاتها.

{أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} أي: حقيق بها وحريٌّ أن لا تطمئن لشيء سوى ذكره، فإنه لا شيء ألذ للقلوب ولا أشهى ولا أحلى من محبة خالقها، والأنس به ومعرفته، وعلى قدر معرفتها بالله ومحبتها له، يكون ذكرها له) اهـ

لذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم عند تكاثر الأعمال على العبد بأن يتشبث بذكر الله سبحانه، كما في الحديث الذي رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّ شَرَائِعَ الإِسْلاَمِ قَدْ كَثُرَتْ عَليّ، فَأَنْبِئْنِي مِنْهَا بِمَا أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ: “لاَ يَزَالُ لِسَانُك رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ”. حيث حياة القلب وطمأنينته.

وفي النهاية أريد أن أضع رؤوس مواضيع الذكر في عناوين مختصرة، حيث إن الذكر والحديث عنه لا يكاد ينتهي من كثرته واستفاضته فضلا عن متعته ولذته.

فألخص ذلك في عناصر خمسة، ينبغي للعبد المؤمن أن يضعها في أهم أولوياته وهو ينظم جدول يومه وليلته.

  • القرءان الكريم

وقد سماه الله تعالى ذكرا في غير ما آية، منها قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} [الحجر:9]

  • الصلاة على النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله بها عليه عشرا.
  • الأذكار والأدعية الوظيفية وهي الأوراد التي تقال دبر الصلوات وفي الصباح والمساء وعند النوم والاستيقاظ والخروج من المنزل ودخوله وعند الأكل والشرب والجماع وعند السفر… وغير ذلك مما ينبغي أن يحفظه ويحافظ عليه المسلم في حياته اليومية.
  • الاستغفار وقد خصصته بالذكر بسبب كثرة ما ورد بشأنه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم،

حتى قال النووي في الأذكار: (والآيات في الاستغفار كثيرة معروفة، ويحصل التنبيه ببعض ما ذكرناه،

وأما الأحاديث الواردة في الاستغفار، فلا يمكن استقصاؤها) اهـ

لكني أذكر هنا حديثا هاما في هذا المقام، وهو ما رواه البخاري عن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعَتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ “. قَالَ: «وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» فبالتزام هذا الذكر كل صباح ومساء مع اليقين بما فيه يضمن العبد أن يكون من أهل الجنة.

ولا يفوتني تذكير نفسي وإخواني بكثرة الاستغفار في وقت السحر، حيث إننا نستيقظ في هذا الوقت بطبيعة الحال لتناول السحور.

الذكر والدعاء المطلق يعني التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والحوقلة والدعاء بما يحتاجه العبد من خيري الدنيا والآخرة وغير ذلك بلا توقيت معين، وهذا المعنى مستفاد من الحديث آنف الذكر “لاَ يَزَالُ لِسَانُك رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ”

 وبلا شك فإن هذه العناصر الخمسة تستحق منا وقفات مفردة مع كل واحدة منها، أسال الله التوفيق والعون على ذلك.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين


التعليقات