النظر في طرفٍ من نصوص القرءان والسنة دون النظر في بقية النصوص المتعلقة بالموضوع محل البحث هو في الحقيقة مرض قديم قد أصاب جسد الأمة الإسلامية في بداية نشأتها ، وبسببه ظهرت الفرق المنحرفة عن النهج القويم.
ومن عجيب الأمر أن تجد بعض المنتسبين لأهل السنة والجماعة مصرين على هذه الطريقة المُعْوَجّة في الاستدلال والتنظير لآرائهم واختياراتهم.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما يفعله حاليا إخواننا المنظرون لما يسمونه بالاصطفاف الثوري ، حيث يستدلون بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} ، وقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}؛؛
ورغم أن الآيات المذكورة نفسها ترد عليهم استدلالهم، حيث تتكلم عن الذين يقاتلون (في سبيله) وتأمر بالاعتصام ب(حبل الله)، إلا أن آيات أخرى في نفس الموضوع إذا ما تم تضمينها للدراسة ستنسف استدلالهم من أساسه،،
فمثلا قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} يبين أنك لا ينبغي أن تفرح بوقوف الجميع بجوارك أو اصطفافهم معك ، فمن الناس من يضرك وقوفه واصطفافه معك.
بل إن سياقا طويلا عظيما واضحا جليا في سورة النساء يبدأ من الآية رقم 60 حيث قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ……. (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا (61)} مرورا بتوصيف بعض أعمال هؤلاء بقوله: {وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا (72)} فَهُم: {يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} و {مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء} ويأتي الأمر واصفا أصحاب المعركة الحقيقيين: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} ثم العتاب بسبب الخلاف في شأن المذبذبين: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا} وصولا إلى النهي والتحذير من خطورة الاستمرار في الدفاع عنهم {… وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) …… وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) …… هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)}،، هذا السياق يضع النقاط على الحروف ، ويصف ويأمر وينهى ويحذر بحيث تكتمل الصورة أمامك وأنت تبحث عن الاصطفاف.
وهنا يبدر سؤال مهم..
لماذا كل هذا الحرص على الاصطفاف مع البعيدين عنك قلبا وقالبا ، في نفس الوقت الذي لا يظهر عشر معشاره مع الصامدين الثابتين بجوارك على طول الخط؟!
هل تراهم قلة قليلة لا تأثير لها على المشهد؟
هل تكلهم إلى دينهم وإخلاصهم رغم طعنك فيهم أحيانا وسكوتك عن الطعن فيهم من أتباعك أحيانا أخرى؟
هل تشعر أن وقوفك بجانبهم (أو وقوفهم بجانبك) قد تسبب في زيادة الضريبة التي تدفعها فقررت أن تخفف الأعباء عن كاهلك؟
ثم..
هل يجدر بتاجر عاقل أن يبحث عن زبائن جدد حتى لو بخسارة زبائن المحل الأصليين؟
أظن أن الآية التي تستدل بها أصلا توجهك إلى هؤلاء الذين تعرض عنهم وتفضُّهم من حولك ، وخذ هذه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} واقرأ (عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ).
وهنا تجدر الإشارة إلى أمرين:-
الأول: هل ممكن أن يحدث اصطفاف حقيقي مع هؤلاء دون أن تتنازل عن مبادئك أو تخسر أنصارك وقواعدك؟ وهل كان الاصطفاف أيام 25 قائما على تنازلات ومساومات سياسية ، أم كان اصطفافا عفويا فطريا لم يكن في حسابات الداعين لأول تظاهرة؟
الثاني: هل أنت بحاجة حقيقية إلى مثل هذا الاصطفاف ، أم أنك بحاجة إلى تطوير آدائك وتنشيطه مما يدفع الجميع لاحترامك وتقديرك ومن ثم الانحياز إليك؟
أما ما أريد أن أقوله باختصار: أهلا وسهلا بالاصطفاف الذي تشهده ميادين المعركة الحقيقية ويكون موافقا للشرع والفطرة ، بعيدا عن اصطفافات الفنادق والتغريدات والبيانات التي تفرق ولا تجمع وهي كذلك لا تسمن ولا تغني من جوع.
والله من وراء القصد
التعليقات