قلت لدموعى .. وقالت لى ..

شعرت بالهم والحزن شبحاً يتهيأ كي يجثم على صدرى ، أسرعت نحو كتاب ربي ، أفتح دفتيه بلهفة لاهثة ؛ باحثاً عن النجاة مما ألمّ بي ، وما كاد لساني يلهج بذكر الله تالياً بضع آيات ؛ حتى فاضت الدموع من عيني ..

قلت لدموعي : ما أجراك غزيرة هكذا أيها الدموع؟

فأجابتني وهي تسيل حارةً على مدامعى : لقد طالت الوحشة بينك وبين ربك ، منذ متى لم ترتّل كتاب ربك ؟ ؛ جفّ لسانك عن ذكر الله ؛ فقسى قلبك ..

أجبتها والأسف يملأ قلبي : لقد تفرقت نفسي فى دروب الحياة !!

قالت دموعي : ولماذا تذهب بعيداً فى تلك الدروب أيها المسكين ؟ لماذا يخدعك طول الأمل ؟ .. ألم يضمن لك ربك رزقك وأجلك ؟ ففيم اللهاث وراء السراب ؟!!
لماذا تترك من يأتيك بالدنيا بأسرها .. يأتيك بأمان الحاضر ، وسعادة المستقبل ، لتجرى وراء المتاع القصير ، والزوال الأقرب ..؟؟

قلت لدموعي : كلنا يدور مع رحى العيش ، ويمنّيه طول الأمل .. كلنا يحب أن يعيش حياة كريمة ناعمة ، أليس كذلك ؟

قالت دموعي : يحب الحياة الكريمة .. نعم ، يعيش سعيداً منعماً .. نعم ، ولكن ما علاقة ذلك باللهاث وراء الدنيا ، وترك ما أمر الله ؟؟
أيها المسكين .. لا تبقى على لهاثك حتى تسقط فجأة فى أكفان الموت .. ذلك الطالب الذى لا يتأخر ، يأتى بغتة فيبدد كل الأحلام هباء .. وعندها يدرك من فرّط فى جنب الله أن آماله الوهمية قد أضاعت عمره دونما شعور .. ذلك أنه قد غرّه بالله الغرور ({يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ }لقمان33
فهلا سألت نفسك : أين أنت من الصدق مع الله فيما تبقى من فرصة هذه الحياة ؟!

… وما أن تفوهت دموعي تلك الكلمات حتى فاضت عيني دموعاً تلو دموع !!

( جال بخاطرى هاجس يردد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله ، .. .. ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه !! )
جرت دموعي بغزارة صارخة فيّ : على رسلك أيها المسكين ..
حذار من هذا الشبح المتربص بك .. راقبه ، لقد بدأ يتسلل إلى قلبك .. إنه شبح العجب والخيلاء وأمن مكر الله .. إحذر يا صاحبى .. فلا تغترّ بتلك الدموع وتظن أنك العابد القانت !!!
ستة وخمسون عاماً قضيتها على ظهر هذه الحياة .. ما العمل الذي ستلقى به ربك؛ فينجينك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ؟!

قلت لدموعي : لقد حاولت .. حاولت أن أطيع ربي بقدر ما أستطيع، لي أخطاء كثيرة ، لست أنكرها .. وإنما أرجو رحمة الله التى وسعت كل شىء أن تسعها .

قالت دموعي : فلتكن على يقين أنك إن وفقت إلى طاعة ربك ، فإنما هو محض فضل الله ، ولا يدخل أحد الجنة بعمله .. وإنما هى رحمة الله التى نفتقر إليها جميعاً ..

قلت لدموعي : نعم أيتها الدموع ، إنها رحمة الله التى نفتقر إليها جميعاً . فلماذا تتسرعين وترمينى بسهام القنوط من تلك الرحمة ؟

قالت دموعي : معاذ الله أن أدفعك للقنوط .. بل أطالبك بالتوبة .. أطالبك أن تحفظ بها ذخيرة عمرك .. فإن العبد إذا استغرقت سيئاته الحديثة حسناته القديمة وأبطلتها ، ثم تاب منها توبة نصوحاً خالصة ؛ عادت إليه حسناته ولم يكن حكمه حكم المستأنف لها ، بل يقال له : تبت على ما أسلفت من خير ..

قلت لدموعي : أسأل الله أن يرزقني توبة قبل الممات ، وأن يصلح لي ما بقي من عمري ، وأن يغفر لي ما كان من ذنبي ، ويرزقني حسن الخاتمة ..

قالت دموعي : أسأل الله عزوجل أن يرزقك التقوى .. فإذا صرت مرفوع القدر بها فلا تتبع عزها بذل المعاصى ..

قلت لدموعي : إن كلماتك تنطق حكمة .. فأنت تقطرين من أعين رزقها الله بالتذكر ، وألهمها بفضل منه التفكر ، فرأت من عجائب قدرته وحكمته .. وهبت عليها نسائم الرحمة الإلهية ، فدفعت القلب بالشوق إلى لقاء ربه ..

قالت دموعي : عرفت فالزم .. وتمنيت فاصدق .. وآمنت فاعمل .. وردد مع من كانوا يرددون ” متى نلقى الأحبة ، محمداً وصحبه ؟ ”

قلت لدموعي : أتدرين أيتها الدموع ؟ لقد ذكرنى حوارك بقول شيخ طيب حدثني
يوماً فقال لى : كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ، والموت علامة النهاية لفرصة الحياة التي وهبها الله لعباده .. يا بني الحزن يغذى العقول بالتدبير ، والدموع تغسل القلوب الحزينة ..


التعليقات