في تربيتنا الأسرية وفي مناهجنا الدراسية وفي طرق التعليم والتربية ، وفي إدارة
مؤسساتنا من أدناها إلي أعلاها نبعد كثيراً عن ثقافة النقد ، بل نعتبرها خروجاً عن
الطاعة وخروجاً علي الإجماع وربما سوء أدب أو سوء أخلاق أو ربما رأيناها خيانة ؟!!
وإذا ذكرت كلمة ” نقد ” غلب على أفهام الكثيرين أنها ترادف كلمة ” تشهير ” أو ”
تجريح ” !!
ولذلك نجد أن عملية ” النقد ” في مجتمعاتنا هي عملية غير رائجة ، بل تُوَاجَه في
كثير من الأحيان بلون من ” التشنج ” الفكري الذي يتهم من يقوم بالنقد بأنه خائن أو عميل ..!!
وهذا في حقيقته كارثة كبرى ؛ فكلنا نعلم أن قائد السفينة لا يكفيه أن يقلع في
اتجاه هدفه ، بل يجب عليه ” مراجعة ” مساره على طول الطريق ، فإذا عدّل مساره
لتفادي الهلكة لم يشعر أبداً أن ما يقوم به هو ” رجوع ” عن هدفه ..
نعم .. إن الفارق كبير بين ” المراجعة ” وبين ” الرجوع ” .. بل إن العلاقة بينهما علاقة
تضاد ..؟!
فالـ ” مراجعة ” عقلانية ناقدة ؛ العقل يراجع حصاده ناقداً ذاته. .
وأما ” الرجوع ” فهو وجدان وحنين إلي رحم الأم أو حضنها ..
والمراجعة توتر وتوثب يقظ ، وتأهب لحركة وعزم معقود. .
وأما الرجوع فهو حلم وطمأنينة وسكون وتسليم . .
المراجعة النقدية إعمال للعقل في سبيل بناء الحاضر والمستقبل بناء إبداعياً . .
والرجوع استسلام للماضي ، وأسي علي مفارقته . .
المراجعة نقد للحاضر والماضي تأسيساً علي إنجازات وفعالية الذات الجمعية ، مع
تطلع إلي المستقبل في ضوء فكر جديد ، ومسئولية إزاء الفعل والفكر الجديدين ..
والرجوع خصومة مع الحاضر ، واغتراب أبدي في الزمان وانفصام بين فعل مهيض ،
وفكر محلق في فراغ الأمنيات !!
فمتي ندرك أن النقد .. مراجعة ، لا رجوع ..
لقد تحوّل الكثيرون منا إلي شياطين خرس ، وتعلموا كيف يتقنون فن الصمت وتلقي
الأوامر ؛ فماتت بداخل كل منهم روح المبادرة ، وفقد روح الجماعة ؛ فأصبحت حياته
كلها ترديداً لمقولة ” عاش سعيداً من بقي في الظل ”
وفي ظل مجتمع لا يسمح بالحوار الحر ، أو النقاش الآمن ، تُكبت فيه الأفكار كبتاً
حتي تنتابها البرودة فتصاب بالقشعريرية القاتلة .. و يربي الناس فيه على الكذب
والنفاق والتذلل ، صار أكثرنا عبيداً لا يملكون أمر أنفسهم ، ولا يأمنون علي تربية
أبنائهم علي روح الحرية ..
ولكي نبدأ في رحلة الحرية ؛ لا بد لنا نمتلك القدرة علي تغيير واقعنا ، و اختراع
مستقبلنا الجميل اختراعاً من خلال الوعي بالحدود التي يمكن أن تتكامل أخلاقياً مع
الحرية ذاتها ، ويقدر الإنسان معها أن يصنع ـ بإذن الله ـ من سم العبودية ترياق الحرية
، من خلال نصوص حرة تؤكد أن ” الحرية ليست في أن نعمل ما نريد ، وإنما في أن
نريد ما نعمل ” ؛ فتردد كل حركة لنا في الحياة : من علمني حرفاً ، صرت به حراً ،
وصرت معه حراً ..
التعليقات