قال البخاري رحمه الله: باب أجر الصابر على الطاعون.
ثم روى بسنده عَنْ عائشَةَ رضيَ اللَّهُ عنها أنَهَا سَأَلَتْ رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم عَن الطَّاعونِ، فَأَخبَرَهَا “أَنَهُ كَانَ عَذَاباً يَبْعَثُهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى منْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ تعالَى رحْمةً للْمُؤْمنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ في الطَّاعُون فَيَمْكُثُ في بلَدِهِ صَابِراً مُحْتَسِباً يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يُصِيبُهُ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ”.
وفي شرح الحافظ ابن حجر لهذا الحديث فوائد جمة؛ أردت أن أنقلها لكم:
وفي حديث أبي عسيب عند أحمد “فالطاعون شهادة للمؤمنين ورحمة لهم، ورجس على الكافر”..
قوله: (باب أجر الصابر على الطاعون) أي سواء وقع به أو وقع في بلد هو مقيم بها.
قوله: (أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء) في رواية: (على من شاء) أي: من كافر أو عاص.
قوله: (فجعله الله رحمة للمؤمنين) أي من هذه الأمة ، وفي حديث أبي عسيب عند أحمد “فالطاعون شهادة للمؤمنين ورحمة لهم، ورجس على الكافر” وهو صريح في أن كون الطاعون رحمة إنما هو خاص بالمسلمين، وإذا وقع بالكفار فإنما هو عذاب عليهم يعجل لهم في الدنيا قبل الآخرة.
وأما العاصي من هذه الأمة فهل يكون الطاعون له شهادة أو يختص بالمؤمن الكامل؟ فيه نظر.
والمراد بالعاصي من يكون مرتكب الكبيرة ويهجم عليه ذلك وهو مُصِرّ، فإنه يحتمل أن يقال لا يكرم بدرجة الشهادة لشؤم ما كان متلبسا به لقوله تعالى: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات} وأيضا فقد وقع في حديث ابن عمر ما يدل على أن الطاعون ينشأ عن ظهور الفاحشة، أخرجه ابن ماجه والبيهقي بلفظ “لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم” الحديث.
وله شاهد عن ابن عباس في الموطأ بلفظ: “ولا فشا الزنا في قوم إلا كثر فيهم الموت”، وأخرجه الحاكم بلفظ: “إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله”، وفي حديث بريدة عند الحاكم بسند جيد بلفظ “ولا ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الموت” ولأحمد من حديث عائشة مرفوعا لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا أوشك أن يعمهم الله بعقاب” وسنده حسن.
ففي هذه الأحاديث أن الطاعون قد يقع عقوبة بسبب المعصية، فكيف يكون شهادة؟!
(صابرا) أي غير منزعج ولا قلق، بل مسَلِّمًا لأمر الله راضيا بقضائه؛ وهذا قيد في حصول أجر الشهادة لمن يموت بالطاعون، وهو أن يمكث بالمكان الذي يقع به فلا يخرج فرارًا منه.
ويحتمل أن يقال: بل تحصل له درجة الشهادة لعموم الأخبار الواردة، ولا سيما في الحديث الذي قبله عن أنس “الطاعون شهادة لكل مسلم” ولا يلزم من حصول درجة الشهادة لمن اجترح السيئات مساواة المؤمن الكامل في المنزلة، لأن درجات الشهداء متفاوتة كنظيره من العصاة إذا قُتل مجاهدا في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا مقبلا غير مدبر، ومن رحمة الله بهذه الأمة المحمدية أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا، ولا ينافي ذلك أن يحصل لمن وقع به الطاعون أجر الشهادة.
قوله: (فليس من عبد) أي: مسلم (يقع الطاعون) أي: في مكان هو فيه (فيمكث في بلده) أي: يكون فيه ويمكث فيه ولا يخرج من البلد أي التي وقع فيها الطاعون.
قوله: (صابرا) أي غير منزعج ولا قلق، بل مسَلِّمًا لأمر الله راضيا بقضائه؛ وهذا قيد في حصول أجر الشهادة لمن يموت بالطاعون، وهو أن يمكث بالمكان الذي يقع به فلا يخرج فرارًا منه.
وقوله: (يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله) له قيد آخر، فلو مكث وهو قلق أو متندم على عدم الخروج ظانًّا أنه لو خرج لما وقع به أصلا ورأسا، وأنه بإقامته يقع به فهذا لا يحصل له أجر الشهيد ولو مات بالطاعون؛ هذا الذي يقتضيه مفهوم هذا الحديث، كما اقتضى منطوقه أن من اتصف بالصفات المذكورة يحصل له أجر الشهيد وإن لم يمت بالطاعون.
وأما ما اقتضاه مفهوم حديث الباب:
أن من اتصف بالصفات المذكورة ووقع به الطاعون ثم لم يمت منه أنه يحصل له ثواب الشهيد فيشهد له حديث ابن مسعود عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “إن أكثر شهداء أمتي لأصحاب الفرش، ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته” واستنبط من الحديث أن من اتصف بالصفات المذكورة ثم وقع به الطاعون فمات به أن يكون له أجر شهيدين ، ولا مانع من تعدد الثواب بتعدد الأسباب كمن يموت غريبا بالطاعون، أو نفساء مع الصبر والاحتساب.
ويستفاد من الحديث أيضا أن من لم يتصف بالصفات المذكورة لا يكون شهيدا ولو وقع الطاعون ومات به فضلا عن أن يموت بغيره، وذلك ينشأ عن شؤم الاعتراض الذي ينشأ عنه التضجر والتسخط لقدر الله وكراهة لقاء الله.
والله أعلم.
التعليقات