في ظل الضجيج المصاحب للانتخابات الرئاسية الأمريكية وتزايد احتمالات فوز جو بايدن بمنصب الرئيس بدأت الآمال تداعب العديد من أبناء أمتنا العربية والإسلامية بحدوث انفراجة في المشهد السياسي في عدة دول وفي مقدمتها مصر نظرا لأن الضوء الأخضر الذي أعطاه ترامب لمحور محمد بن زايد ومحمد ابن سلمان والسيسي يوشك على التغير. وهو ما يعني تلاشي صفقة القرن المزعومة، وتخفيف مساحة القمع وسلب الحريات للمعارضين. وبالتوازي مع ذلك نجد أن وسائل الإعلام التابعة للنظام المصري ساندت ترامب وبدأت تندد ما أسمته تزوير الانتخابات الأمريكية، وتعبر عن قلقها بخصوص مستقبل العلاقات المصرية الأمريكية في ظل الضغوط المتوقع أن يمارسها بايدن على نظام السيسي في الملفين الحقوقي والسياسي.
ورغم المقدمة السابقة إلا أنه ينبغي عدم الإفراط في التفاؤل وقراءة الواقع قراءة دقيقة مع استصحاب التاريخ عموما والتاريخ القريب خصوصا، ففي بعض القضايا الجوهرية سنجد أن ترامب سار على خطا أوباما مع فارق شكلي تمثل في أنه استعمل الابتزاز الفج لجني أموال من حكام الخليج.
أوباما ضد نهج بوش
عقب أحداث 11 سبتمبر اعتبرت إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش أن الاستبداد بالمنطقة العربية هو السبب فيما أسمته بتغذية مشاعر التطرف، فضغطت على حلفائها لزيادة رقعة الحريات، وجاء غزو العراق في عام 2003 ليرسل برسالة عملية على أن إدارة بوش ستمضي في تغيير الأنظمة التي لا ترضى عنها، وبالفعل استجاب حسني مبارك فحدثت بمصر تعديلات دستورية سمحت بإجراء انتخابات للرئاسة لأول مرة عام 2005 ، كما فاز أعضاء من جماعة الاخوان ب٨٨ مقعدا عام ٢٠٠٥ في انتخابات مجلس النواب، وهو عدد غير مسبوق منذ بدء مشاركاتهم بالانتخابات النيابية، وتوترت الأجواء بين مبارك والإدارة الأمريكية حتى أنه أوقف زيارته السنوية الدورية إلى واشنطن ولم يرجعها سوى في عهد أوباما .كما تخلى القذافي عن برنامجه الخاص بأسلحة الدمار الشامل ودفع تعويضات لضحايا حادث طائرة لوكيربي، وبدأ في الانفتاح على المعارضة الليبية وسمح بعودة العديد من عناصرها من الخارج، ثم توج المشهد بإجراء انتخابات نزيهة في مناطق السلطة الفلسطينية فازت بها حركة حماس ليتضح لواشنطن أن المسار الديموقراطي سيأتي بالخصوم وسيهدد المصالح الأمريكية بالمنطقة.
جاءت إدارة أوباما للحكم بمنظور مختلف للتعامل مع السياسة الخارجية ومن ضمنها قضايا المنطقة العربية، وتبنى أوباما نهجا عبر عنه التقرير الشهير بعقيدة أوباما الذي نشرته وكالة بلومبيرج في عام 2016..
مع تأزم الأوضاع الميدانية في العراق، وفوز حماس بالانتخابات، وانشغال إدارة بوش بخلافاتها الداخلية، والإطاحة برامسفيلد ومجموعة المحافظين الجدد من دوائر صنع القرار، تعثر المشروع الأميركي للدمقرطة وتغيير الشرق الأوسط.
جاءت إدارة أوباما للحكم بمنظور مختلف للتعامل مع السياسة الخارجية ومن ضمنها قضايا المنطقة العربية، وتبنى أوباما نهجا عبر عنه التقرير الشهير بعقيدة أوباما الذي نشرته وكالة بلومبيرج في عام 2016، ويتلخص في (الانسحاب، وخفض الإنفاق، وتقليل المخاطر، وتحويل الأعباء إلى الحلفاء). فحماية (النظام العالمي الليبرالي ضد الإرهاب الجهادي، والنزعة الروسية للمغامرة، والضغوط الصينية، تعتمد جزئيا على جاهزية بقية الدول لتشارك العبء مع الولايات المتحدة) وفقا لتعبيرات عقيدة أوباما.
رأى أوباما أن السياسة الخارجية قد استنزفت الكثير من اهتمام وموارد أميركا، وأن مستقبل أميركا الاقتصادي هو في آسيا، وبأن التحدي المتمثل في صعود الصين يتطلب اهتماما دائما بينما الشرق الأوسط يموج بمشاكل تؤدي للحروب ويُقتل فيها الجنود الأمريكان، وتُستنزف فيه قوة ومصداقية الولايات المتحدة مما يؤثر على رؤية بقية العالم لها. ومن ثم تبنى أوباما خيار الانسحاب من العراق، وتجنب ممارسة ضغوط على الأنظمة العربية لإجراء إصلاحات سياسية، وترك مساحة للقوى الإقليمية لمساعدة واشنطن في إدارة المنطقة، وهو ما سمح بتنامي نفوذ طهران وأبوظبي والرياض وأنقرة فضلا عن تل أبيب.
مصر وأوباما
مع تراجع الضغوط الأمريكية لتوسيع نطاق الحريات في عهد أوباما بالتوازي مع سعى مبارك لتصعيد نجله جمال لواجهة المشهد السياسي، تزايدت وتيرة قمع النظام المصري لمعارضيه وتلاشت هوامش الحريات. وانحصر الجدل نهاية عام 2010 حول ترشح مبارك مجددا للرئاسة في العام التالي أم توريثه الحكم لنجله، ولكن جاءت الأقدار بما لا تشتهي السفن، ووقعت ثورة يناير لتمثل مفاجأة للإدارة الأمريكية قبل غيرها مما استدعى من أوباما توبيخ قادة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية المشرفين على مصر لعدم تحذريهم له من احتمال إدلاع ثورة وفقا لما ذكره زولتان باراني في كتابه (كيف تستجيب الجيوش للثورات؟ ولماذا؟).
وعندما لم تأت ثورات الربيع العربية بما يخدم المصالح الأمريكية، تركت واشنطن جهود إدارة عملية الثورة المضادة لأبوظبي التي أشرفت على ترتيب الانقلاب في مصر ودعم حفتر في ليبيا، وإفساد الثورة اليمنية..
داخل إدارة أوباما حدث خلاف حول كيفية التعامل مع الثورة المصرية، فالجيل الأكبر سنا مثل وزير الدفاع روبرت جيتس ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ونائب الرئيس جو بايدن تبنوا خيار دعم مبارك بقوة باعتبار أن الضغط عليه سيوصل رسالة سلبية لحلفاء واشنطن العرب مما يهدد العلاقات معهم، ويؤثر سلبا على المصالح الأمريكية، وأن الأفضل الدعوة لانتقال منظم للسلطة خوفا من صعود الإسلاميين في حين أن فريق مجلس الأمن القومي وإدارة أوباما مثل دينيس مكدونو وبن رودس وجون برينان تبنوا دعم الثورة المصرية باعتبارها حراكا شعبيا سيجلب الديموقراطية ويحافظ على المصالح الأمريكية. ومع تصاعد الحراك الشعبي في مصر انحاز أوباما إلى خيار الضغط على مبارك وإجباره على الرحيل، وفقا لما ذكره وزير الدفاع السابق جيتس في مذكراته المعنونة باسم (الواجب).
وعندما لم تأت ثورات الربيع العربية بما يخدم المصالح الأمريكية، تركت واشنطن جهود إدارة عملية الثورة المضادة لأبوظبي التي أشرفت على ترتيب الانقلاب في مصر ودعم حفتر في ليبيا، وإفساد الثورة اليمنية عبر دعم الحوثيين أولا ثم دعم علي عبدالله صالح ومليشيات المجلس الانتقالي الجنوبي لاحقا. ثم جاء ترامب للحكم في يناير 2017 ليوطد علاقته بمحور الثورات المضادة، ويكمل ما بدأ في عهد أوباما وبايدن، فلم يتدخل ترامب عسكريا بالجيش الأمريكي في أي صراع بالمنطقة، وأكمل سياسة تحويل الأعباء إلى الحلفاء وفي مقدمتهم أبوظبي مع الاستمرار في سياسة القتل المستهدف للعناصر الخطرة بواسطة الطائرات دون طيار أو عبر غارات القوات الخاصة مثلما حدث مع زعيم تنظيم الدولة البغدادي وقائد فيلق القدس قاسم سليماني.
أما في إطار العلاقات مع الدول الأخرى داخل حلف الناتو، فلم يكن ترامب هو أول من بدأ سياسة الضغط على الدول الأوروبية لرفع نسبة إنفاقها العسكري من ناتجها المحلي إلى 2%، فأوباما سبقه إلى ذلك، حتى أن أوباما قال لديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا (لن يعود بإمكان بريطانيا ادعاء علاقة خاصة مع الولايات المتحدة إن لم تلتزم بإنفاق 2% على الأقل من إجمالي ناتجها المحلي على الدفاع. عليك دفع حصتك العادلة ديفيد).
الشاهد مما سبق أنه ينبغي الحذر كثيرا في التعامل مع حدوث تغييرات في الإدارة الأمريكية، فالملفات متشابكة ومعقدة، وما يحرك واشنطن هو مصالحها التي لا تتقاطع عادة مع الشعوب العربية بقدر تقاطعها مع الأنظمة الاستبدادية. وما دفع إدارة أوباما للضغط على مبارك للرحيل هو الحراك الشعبي الهادر الذي خشي الجيش وقتها من أن يؤدي الصدام معه إلى حدوث أزمة داخل القوات المسلحة نفسها. وهو ما يمثل تهديدا لمصالح واشنطن بشكل مباشر، ففي جلسة استماع عقدتها لجنة الدفاع الفرعية المنبثقة عن لجنة المخصصات بمجلس النواب الأمريكي مع وزير الخارجية آنذاك جون كيري في 2013 قال إن أحد أهم استثمارات الولايات المتحدة الأمريكية مع مصر تتمثل في علاقتها بالمؤسسة العسكرية منذ أكثر من 30 عاماً.
التعليقات