الذي نعرفه أحسن من الذي لا نعرفه (الفكر المحافظ ومناهضة التغيير)

عنوان المقال يمثل حال العديدين في بلادنا العربية من المتشبثين بالواقع المزري ورافضي التغيير خوفا من المستقبل، وهو فكر له نظائر في الفكر السياسي الغربي تعبر عنه المدرسة المحافظة التي هي من أبرز المدارس المناهضة للتغييرات الجذرية.

تعود أصول المدرسة المحافظة إلى تنظيرات إدموند بيرك (1729-1797) الذي وُلد في مدينة دبلن الايرلندية، ودرس القانون ثم انضم إلى مجلس العموم البريطاني حيث ظل نائبا به لمدة 28 سنة. وكانت بريطانيا في عهد بيرك كما هي إلى اليوم تحكمها ملكية دستورية.

 تميز بيرك بخطبه وكتاباته البليغة، ودارت أبرز أطروحاته حول:

  • التشديد على أهمية احترام التقاليد لأنها تمثل الحكمة المتوارثة عبر الأجيال.
  • تجنب الاعتماد على التجريدات والمثل، والاعتماد بدلا من ذلك على الخبرة والتجربة العملية و المواءمات التي تراعي تعقيدات الواقع.
  • الترحيب بالتغيير المتدرج، ورفض التغييرات الجذرية التي تُحدث قطيعة مع التراث حيث تتسبب في أضرار ضخمة تؤثر على استقرار المجتمع.
  • إعلاء مصلحة الدولة على غيرها من المصالح مع ضرورة تقييدها بالالتزام بالقانون.
  • التنديد بالمبادئ العقلانية لمدرسة التنوير، ورفض الاستخدام المفرط للعقل للتدقيق في أوضاع المجتمع بحجة أن العالم يتشكل وفق إرادة إلهية يعجز العقل البشري عن فهمها بشكل كامل.

موقف بيرك من التقسيم الطبقي للمجتمع والتمثيل السياسي

رأى بيرك أن الأمن لا يمكن أن يتوافر في المجتمع إلا في ظل حكومة مستقرة تحظى برضا المواطنين وتلتزم حكم القانون. ولذلك شدد على دور الطبقة الأرستقراطية في الحفاظ على نظام سياسي مستقر في بريطانيا، باعتبارها الطبقة المؤهلة للوقوف أمام تجاوزات الملك حال حدوثها، وذلك نظرا لما يتمتع به أفرادها من ثروات يتوارثونها جيلا بعد جيل. فتلك الثروات تكفل لأصحابها الاستقلال في الرأي، ومساعدة وحماية الآخرين، والتفرغ للشؤون العامة بدلا من الانهماك في توفير متطلبات الحياة اليومية، كما تتيح لأصحابها التعلم وتطوير مواهبهم ومهاراتهم.

انبثق عن تصور بيرك لدور الأرستقراطية في النظام السياسي، قوله أن الأرستقراطيين الحاصلين على تعليم جيد هم أكثر قدرة على إدراك مصالح الناس.  وبالتالي جادل بيرك بأن من حق النائب الارستقراطي عند التصويت في مجلس العموم مخالفة أراء ناخبيه في حال التعارض بين رأيه الشخصية وأراء ناخبيه أو التعارض بين مصلحة الدولة ككل ومصلحة دائرته الانتخابية.

موقف بيرك من الثورات والإصلاح

جادل بيرك بأن نظام الحكم القائم هو ثمرة تراكم قرون من الحكمة والخبرة، فالدستور الإنجليزي على سبيل المثال هو نتاج جهود أجيال من الأفراد والمؤسسات بما يتجاوز جهد أو عقل فرد واحد على صياغته. وبالتالي رفض بيرك أي تغييرات قد تخل بالاستقرار السياسي والاجتماعي، وهو ما انعكس على رفضه للثورة الفرنسية.

عارض بيرك الثورة الفرنسية في مراحل مبكرة، حيث نشر في عام 1790 أحد أشهر كتبه (خواطر حول الثورة في فرنسا). وتنبأ بيرك في كتابه بأن يؤدي تدمير المؤسسات الملكية إلى إغراق فرنسا في عالم من الفوضى والعنف والإلحاد، وتنبأ بأن “الثورة الفرنسية” ستهدد أمن واستقرار بقية البلاد الأوروبية، مما دفعه للتأكيد على ضرورة التصدي المبكر لتلك الثورة.

وبالمقابل، رفض بيرك الطرح القائل بأن الثورة الإنجليزية في عام 1688 التي أطاحت بحكم الملك الإنجليزي الكاثوليكي جيمس الثاني جعلت من حق الإنجليز اختيار حكامهم ومحاسبتهم وعزلهم قائلا أنها ثورة حافظت على التقاليد البريطانية التي تقضي بمنع الملك من انتهاك القانون، أو فرض المزيد من الضرائب والاحتفاظ بجيش دائم دون موافقة برلمانية. وأضاف أنها ثورة احترمت المؤسسات البريطانية العريقة ولم تهدم النظام الملكي حيث جرى فقط استبدال الملك بابنته ماري وزوجها وليام. ومن ثم ندد  بيرك بالرأي القائل بأن الثورة الفرنسية هي نسخة محدثة من ثورة 1688 الإنجليزية.

كما أيد بيرك الثورة الأمريكية ضد فرض بريطانيا لضرائب تعسفية على الأمريكيين مبررا رأيه بأن الأمريكيين بروتستانت المذهب ثاروا ضد محاولة بريطانيا فرض ضرائب عليهم دون موافقتهم، وهو ما يعني أنها ثورة تحافظ على التقاليد. وبذلك يتبين أن بيرك لم يكن معارضا للثورات بإطلاق لكنه من أنصار التغيير الجزئي الذي يكفل بقاء النظام.

وقد جادل بيرك بأن تقييم الحكومات لا ينبغي أن يحدث وفق معايير الكمال المجرد إنما على أساس البدائل الممكنة، وقال إن السعي لإعادة تشكيل المجتمع جذريا من أجل زيادة مساحة الحرية عادة ما ينتج عنه نظام تختفي فيه الحرية، ومن ثم قال إن عملية الإصلاح تتطلب وقتا وتدرجا، بحيث يتم إجراء بعض الإصلاحات والنظر إلى نتائجها، وعقب وضوح آثارها يتم اعتماد جرعة أخرى من الإصلاحات المتدرجة في عملية تستغرق أعواما طويلة.

أما في حال وجود حكومة استبدادية لا تجدي معها الخطوات الإصلاحية المتدرجة، فقد رحب بيرك بتغييرها ولو بالعنف من أجل تقليل الشرور الناتجة عن تواجد هذه الحكومة وليس من أجل تحقيق الكمال.

مناقشة أفكار بيرك

أفكار بيرك ناسبت المجتمع البريطاني الذي حكمته ملكية دستورية حظيت بقبول شعبي، ولم يشهد صراعات طبقية عنيفة بين مكوناته. كما أنها تمثل الجانب التقدمي في الفكر المحافظ فلم يرفض بيرك التغيير بشكل مطلق إنما رحب بالتغيير المتدرج الذي لا يحدث شرخا في المجتمع ويكفل بقاء النظام عبر إصلاحه لنفسه.

أفكار بيرك التي ترى أن استمرارية المؤسسات والممارسات والقيم عبر الزمن يعني صلاحيتها وضرورة الالتزام بها، هي أفكار محل شك، لأن بقاء تلك الأمور قد يعود إلى تلبيتها لمصالح النخب المسيطرة والطبقة الحاكمة لا لصلاحيتها الذاتية. فكل جيل يتعامل مع قضايا عصره وفق ظروفه والمعطيات التي تتوافر له. والاستفادة من حكمة الأجيال القديمة لا تعني الجمود ورفض التغيير. فالتطورات الاقتصادية على سبيل المثال تلقي بظلالها الاجتماعية والسياسية على المجتمع، وهو ما يتطلب ديناميكية في الاستجابة لتك التطورات.  فقد ساهمت الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر الميلادي في بروز أسلوب الإنتاج الكبير في المصانع بدلا من الإنتاج المنزلي المحدود. وقد واكب ذلك تعرض العمال في المصانع لأوضاع غير آدمية مما أدى إلى بروز التيارات الاشتراكية التي تطالب بحقوق العمال، وهو ما انعكس على ظهور مطالبات سياسية جديدة لم تستطع أنظمة الحكم التقليدية أن تواكبها مثل المطالبة بالحقوق الأساسية للمواطن، والمطالبة بتحول الكنيسة إلى مؤسسة من مؤسسات المجتمع ليس لها سلطة فرض آرائها على بقية المكونات المجتمعية.

أما مبررات احتكار الطبقة الارستقراطية  لشؤون الحكم نظرا لتميز أفرادها فلا تصمد أمام حقيقة أن أصول الارستقراطية الأوروبية تعود إلى فترة الغزو النورماندي وحروب العصور الوسطى، حيث تشكلت تلك الطبقة وحازت مكتسباتها عبر القتال لا عبر مميزات طبيعية متأصلة فيهم، وإن توفير ظروف مناسبة لتأهيل البشر وتطوير مهاراتهم يساهم في بروز مواهبهم. ومن ثم فمقاعد الحكم لا ينبغي أن تحتكرها طبقة معينة إنما ينبغي أن يشغلها الأكفاء من البشر.

وكذلك فإن عملية التغيير المتدرج للنظام وإدخال إصلاحات استجابة للضغوط قد تدفع الجماهير للمطالبة بمزيد من الإصلاحات مما يؤدي إلى انهيار النظام في النهاية، فمن الصعب التحكم في مقدار الإصلاح المناسب لبقاء النظام (وهو ما حدث لإيران في نهاية عهد الشاه، وللاتحاد السوفيتي في عهد جورباتشوف).

إن مشاعر النشوة والأمل في المستقبل التي تولدها الأفكار الثورية تستدعي للمشهد بالمقابل مشاعر الخوف من المستقبل لدى قطاعات محافظة ترى أن التمسك بالماضي وبالمؤسسات التقليدية للمجتمع يمثل صمام الأمان. لكن تمكن قوى التغيير من بناء واقع جديد يلبي احتياجات المواطنين ويحقق العدالة يضطر الجميع للتعاطي مع الواقع الجديد الذي يفرض نفسه.

مصدر المقال: موقع البوصلة

التعليقات