مسيرة واضطراب النظام الدولي الليبرالي

عكس تشكيل الأمم المتحدة في عام 1945 بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مصالح الدول المنتصرة في الحرب، والتي احتفظت لنفسها بخمسة مقاعد دائمة في مجلس الأمن (أميركا، روسيا، فرنسا، الصين، بريطانيا)، فضلا عن احتفاظها بحق النقض (الفيتو) على قرارات المجلس. وقد دشنت أميركا آنذاك نظاما اقتصاديا عالميا جديدا يتلاءم مع احتياجات الرأسمالية الغربية، يتكون من البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، فضلا عن الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة (الجات) التي حلت محلها لاحقا منظمة التجارة العالمية عام 1994.

اتسم النظام الدولي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بالقطبية الثنائية، حيث تنافست أميركا كممثلة عن النموذج الرأسمالي الغربي مع الاتحاد السوفيتي الشيوعي على فرض النفوذ في سائر أنحاء العالم. ووصل الصراع بين الجانبين إلى تقسيم بعض الدول مثل كوريا وفيتنام وألمانيا إلى دولتين، توالي كل واحدة منهما أحد القطبين. وقد ساهم امتلاك كلا الطرفين للسلاح النووي في منع اندلاع حروب مباشرة بينهما خوفا من تطورها إلى حروب نووية، وبالمقابل اعتمدا على الحروب بالوكالة في آسيا وإفريقيا.

وفي مواجهة الشيوعية، دشنت أمريكا سياسة الاحتواء التي اعتمدت على سلسلة من التحالفات والاتفاقات الأمنية لتطويق النفوذ السوفيتي عبر أنحاء العالم. فجرى تدشين حلف الناتو في عام 1949 كما عقدت أميركا اتفاقية أمنية مع اليابان عام 1951 لتصبح شريكا استراتيجيا للغرب، وهو ما ساهم في التصدي للنفوذ السوفيتي والصيني في شرق آسيا.

أدى انهيار الاتحاد السوفيتي إلى إحداث تحول جذري في الطبيعة الجيوسياسية للنظام الأوروبي. حيث غاب أي تهديد عسكري من داخل أوروبا. وتراجعت الأدبيات التقليدية لتوازن القوى، وبرزت أدبيات جديدة تتحدث عن أهمية الشراكة..

كما شهدت حقبة الخمسينات والستينات، تصفية الاستعمار الأوروبي بالقارتين الأفريقية والآسيوية إثر تدهور قوة الدول الاستعمارية مثل (بريطانيا وفرنسا)، فضلا عن رغبة أميركا في تقليص نفوذ الدول الاستعمارية لصالح النفوذ الأميركي وقطع الطريق على جهود الاتحاد السوفيتي في العزف على وتر مناهضة الاستعمار.

وبحلول سبعينات القرن العشرين، برزت موجة من الصحوة الدينية في الشرق الأوسط تزامنت مع نجاح الثورة الإيرانية في الإطاحة بحكم الشاه حليف أميركا عام 1979، ثم جاء الغزو السوفيتي لأفغانستان لتشتعل منطقة الشرق الأوسط بصراعين: صراع روسي أفغاني تدعمه أطراف دولية وإقليمية، وصراع إيراني عراقي مدمر استمر 8 سنوات.

ومع استنزاف الاتحاد السوفيتي في الحرب الأفغانية، وتدهور أوضاعه الاقتصادية تبنى الرئيس الروسي جورباتشوف إصلاحات داخلية غير ناجحة ثم انسحب من أفغانستان في عام 1989، وسرعان ما انهارت الأنظمة الشيوعية في شرق أوروبا، وتحطم جدار برلين، ليعلن جورباتشوف في عام 1991 عن تفكيك الاتحاد السوفيتي.

وعقب ذلك، انطلقت صيحات النصر معلنة سيادة النهج الرأسمالي الليبرالي مثلما قال فوكوياما في مقالة نشرها في عام 1989 بمجلة ناشيونال انتريست ثم طورها في كتابه (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) والذي نص فيه على أن الديموقراطية الليبرالية تشكل نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للإنسانية، وأنها تعكس الصورة النهائية لنظام الحكم البشري، ومن ثم فإنها تمثل نهاية التاريخ.

أدى انهيار الاتحاد السوفيتي إلى إحداث تحول جذري في الطبيعة الجيوسياسية للنظام الأوروبي. حيث غاب أي تهديد عسكري من داخل أوروبا. وتراجعت الأدبيات التقليدية لتوازن القوى، وبرزت أدبيات جديدة تتحدث عن أهمية الشراكة بهدف تثبيت مكاسب نهاية الحرب الباردة. وتمت الموافقة على اتفاقية ماستريخت عام 1991 التي نصت على تشكيل اتحاد بين الدول الأوروبية.

النظام العالمي الجديد

جاءت حرب الخليج الثانية في عام 1991 لتواكب إعلان أميركا عن ميلاد نظام عالمي جديد تنفرد فيه بوضع قواعده واتخاذ القرارات بالتنسيق مع حلفائها، وفرض رؤيتها في تسوية النزاعات أو تغيير الأنظمة مثلما فعلت بنظام صدام حسين في العراق.

وخلال حقبة التسعينات برز مصطلح العولمة، والذي تبلور حول ظهور اقتصاد عالمي مفتوح يتخطى حدود الدول القومية، وتنتشر فيه سلاسل التوريد عبر أنحاء العالم. ثم جاءت هجمات 11 سبتمبر الدامية لتدفع أميركا إلى تدشين حرب عالمية ضد الإرهاب دون تحديد نطاقها الزماني أو المكاني، لتقوم أميركا بغزو أفغانستان والعراق، وانتهاج سياسات أحادية أسفرت عن زيادة حدة التصدعات العالمية.

مستقبل النظام الدولي الليبرالي

تمثل أميركا رفقة أوروبا قلب النظام الدولي المعاصر. ورغم أن أميركا تحظى بمؤشرات متقدمة من حيث القوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية والمالية، فقد أدى التوزيع المتغير للقوة العالمية وبروز قوى دولية مثل الصين وروسيا، وأخرى إقليمية مثل إيران والهند وتركيا، فضلا عن تنامي ظاهرة اليقظة السياسية الجماهيرية التي تطالب بالتحرر من الهيمنة الأمريكية إلى تهديد استمرار هيمنة أميركا على النظام الدولي.

كذلك أظهرت أزمة انتشار فيروس كورونا في عام 2020 تراجع أميركا عن ريادتها في مواجهة الأزمات العالمية، وهو الدور الذي قامت به أميركا في الحرب العالمية الثانية..

فالنظام الدولي الذي تقوده أميركا عبر شبكة من المؤسسات والمبادئ والقواعد يتعرض حاليا لمخاطر التقويض بسبب تراجع مشروعيته من منظور العديد من الدول الأخرى التي ترى أن أميركا تتمتع بوضع خاص داخل النظام ، حيث تحتفظ بحق انتهاك قواعده عندما ترى أن ذلك يخدم مصالحها بينما تعاقب الدول الأضعف عندما تخرق قواعد النظام المتفق عليها. وبالتالي تزايدت الدعوات لإجراء إصلاحات في المؤسسات الدولية تكفل مصالح مجموعة أكبر من الدول.

كما أسفرت المغامرات الأمريكية الخارجية بغزو العراق وأفغانستان في إحلال الاضطراب بالشرق الأوسط، وتنامي ظاهرة المليشيات والجماعات المسلحة بدلا من أن تؤدي إلى تقويض خطر الإرهاب، وهو ما يهدد بتفكك العديد من الدول القومية بما يؤثر على استقرار النظام الدولي.

أما أوروبا، فتواجه مشاكل عميقة تتجلى في تنامي النزعات القومية، وهو ما انعكس على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتنامي نفوذ التوجهات العنصرية على خلفية تصاعد ظاهرة الهجرة غير الشرعية، وفشل الاتحاد في تبني سياسة خارجية موحدة تتجاوز المصالح السياسية المتضاربة لأعضائه.

كذلك أظهرت أزمة انتشار فيروس كورونا في عام 2020 تراجع أميركا عن ريادتها في مواجهة الأزمات العالمية، وهو الدور الذي قامت به أميركا في الحرب العالمية الثانية عبر التصدي لألمانيا واليابان أو خلال حقبة الحرب الباردة بالتصدي للنفوذ السوفيتي أو حتى في التصدي للأزمات الإقليمية كما في إخراج الجيش العراقي من الكويت عام 1991، وايقاف العدوان الصربي على كوسوفو، بينما في أزمة كورونا انكفأت أميركا على الداخل، ولم تقدم مساعدات للدول الأجنبية المتضررة.

كذلك تعرض الاقتصاد العالمي القائم على التشاركية والاعتماد المتبادل لضربة قوية قد تدفع العديد من الدول للانكفاء على الذات ومراجعة أولوياتها الاقتصادية والسعي لتحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع والاحتياجات الاستراتيجية.

أما الأمم المتحدة فتقف مشلولة أمام العديد من الصراعات كما هو الحال في سوريا واليمن وليبيا نتيجة ارتهانها لمواقف الدول الكبرى، وهو ما يعني أن المنظمة الأممية لم تعد قادرة على أداء مهامها من قبيل إحلال السلام وفض النزاعات.

يتجه النظام الدولي نحو مزيد من الفوضى وتشتت القوى بالتوازي مع تراجع الاعتمادية المتبادلة بين مكوناته مما يؤدي إلى نمط غير مستقر من العلاقات والسلوكيات يدفع باتجاه مزيد من اختلال توزيع القوة بين الدول والجهات الفاعلة الرئيسة الأخرى.

مصدر المقال: موقع البوصلة

التعليقات