رغم تصريح وزير الخارجية الفرنسي السابق آلان جوبيه بأن “الربيع العربي أخذ الأوربيين على حين غرة”، إلا أن تقريرا سريا أعده جهاز التحليل الاستخباري (SIAC) التابع للاتحاد الأوروبي في عام 2007 بعنوان “السيناريوهات الأسوأ في الشرق الأوسط الأضيق نطاقًا”، ورُفعت عنه السرية في عام 2017، كشف عن توقع الجهاز انهيار الأنظمة المصرية والسورية والأردنية والسعودية، وتفكك العراق، وحدوث هجوم غربي على إيران، وانهيار عملية السلام في الشرق الأوسط.
موقع جهاز التحليل الاستخباري (SIAC) في منظومة الاتحاد الأوربي
يتربع على رأس منظومة الاتحاد الأوروبي “المجلس الأوروبي” الذي يتألف من رؤساء الدول والحكومات الأعضاء بالاتحاد. وهو الجهة الرئيسة في عملية صنع القرار في قضايا السياسة الخارجية والأمنية المشتركة للاتحاد الأوروبي. وواقعيا، تجري مناقشة عملية صنع القرار في قضايا السياسة الخارجية والأمنية المشتركة للاتحاد الأوروبي وإعدادها مسبقًا في “مجلس الشؤون الخارجية” الذي يجمع وزراء الشؤون الخارجية بينما “لجنة السياسة والأمن” (PSC) التي تتكون من سفراء الدول الأعضاء فهي اللجنة المنوطة بوضع التوصيات السياسية لمجلس الشؤون الخارجية وللمجلس الأوروبي. وتدير مفوضية الاتحاد العلاقات الخارجية للاتحاد الأوروبي على ضوء التوجيهات السياسية من المجلس الأوروبي.
يوجد ضمن بنية مؤسسات الاتحاد مركز العمليات (SITCEN) حيث يختص بالتحليل الاستخباري المدني في الأمانة العامة للمجلس الأوروبي، ويتبع مركز العمليات “جهاز التحليل الاستخباري الأحادي SIAC)” الذي يرفع منتجاته إلى هيئات اتخاذ القرار في قضايا السياسة الخارجية والأمنية المشتركة للاتحاد الأوروبي. وفي عام 2007 كان عدد أعضاء مركز العمليات 70 شخصا فضلا عن 21 خبيرا منتدبون من أجهزة الأمن والمخابرات التابعة للدول الأعضاء بالاتحاد.
هدف التقرير
بدأ مشروع التقرير في فبراير 2007 واستغرق ٥ شهور بغرض اكتشاف أسوأ السيناريوهات الممكنة في المنطقة الواقعة بين مصر وإيران (مع استبعاد إسرائيل وتركيا). وورد في التقرير أن (العالم الناطق بالعربية أصبح فضاءً معلوماتيًا واحدًا، فبفضل الجزيرة والمحطات الفضائية الأخرى والإنترنت وجدت الدول المنفردة أن من المستحيل عليها عزل أراضيها عن تدفق الأخبار والتعليقات القادمة من خارج الحدود غير الخاضعة لسيطرتها. ونتيجة لذلك، يمكن للأحداث في جزء معين من الشرق الأوسط أن تؤثر سريعًا على الموقف في دول أخرى، بحيث يحفز أحد النظم التقليدية الحالية سلسلة من التفاعلات تجعل النظم الأخرى أكثر هشاشة).، كما أضاف التقرير (أن أغلب النظم العربية عفى عليها الزمن سياسيًا، فكلًا من “النظم التقليدية” الملكية و النظم “الاشتراكية” تجاوزوا الجدوى من وجودهم منذ زمن طويل. بينما ترسخ نوع من الشعبوية الأيديولوجية الجديدة عبر قراءة أصولية للإسلام تعادي الغرب علنًا، كجزء من المنظور السائد الذي يشهد صعودًا في المنطقة بأسرها).
نتائج التقرير
حدد التقرير الأطراف الرئيسة في اللعبة السياسية في الشرق الأوسط الأضيق نطاقا (مع استبعاد تركيا وإسرائيل)، وتناول أحكاما عامة، ثم اُختتم بالنتائج المتوقعة.
ووفقا للنصوص الواردة في التقرير، فإن (الأطراف الرئيسة في اللعبة السياسية في الشرق الأوسط الأضيق نطاقا، مع الأخذ في الاعتبار حجمها ومدى سيطرتها داخل حدودها والدعم الذي تتلقاه من القوى الدولية المرتبطة بها. هي خمس دول: مصر والسعودية وسوريا والأردن وإيران). فضلا عن بعض الأطراف من غير الدول – والتي تشكلت على أساس اثني أو طائفي أو ارتباطات أيديولوجية – وتلعب أدوارًا هامة في سياسات الشرق الأوسط، بحيث يمكنها في بعض الأحيان تحدي النظم المستقرة؛ بل وفي ظروف خاصة قد تحل محلها، ومن أبرزها (الشيعة، والأكراد، والإخوان المسلمون والجماعات الجهادية).
أما الأحكام العامة التي نص عليها التقرير فهي:
في حال حدوث أزمات هائلة تؤثر على المنطقة سيتضرر النفوذ الغربي غالبًا. وبالنسبة لأوروبا فمن المحتمل حدوث التأثيرات التالية: تعطيل إمدادات الطاقة، وصعود الإرهاب الموجه للأوروبيين، بالإضافة إلى المزيد من اللاجئين والمهاجرين ممن سيحاولون دخول الاتحاد الأوروبي.
النموذج الديموقراطي الغربي ليس نموذجًا جذابًا للشعوب في الشرق الأوسط ، بينما البديل الأكثر مصداقية للنظم الحالية هو نوع من الشعوبية الجديدة المتجذرة في الإسلامية السياسية، مع عداوة شديدة للغرب.
الوضع الراهن يخدم مصالح القيادة الحالية بصورة أفضل، بينما ستفيد التغييرات الأطراف الفاعلة من غير الدول، ونتيجة لذلك فإن التفكك الاجتماعي بل وحتى الفوضى هي احتمالات واقعية في العديد من دول المنطقة.
يمكن أن تمتد الأزمات المحلية في الشرق الأوسط بسهولة من بلد إلى آخر متحولة إلى أزمات ذات طبيعة إقليمية.
لن يتأثر النفوذ الهندي أو الصيني على الأرجح إلا بصورة طفيفة، فقدرة كلٍ منهما على استغلال تطور الوضع نسبيًا ستعتمد على الموقف المستجد نتيجة للأزمة، كما أن الفوضى المنتشرة ستعرض إمدادات الطاقة للخطر، وهو ما يُعد أمرًا حيويًا للبلدين.
أما خطوط الصدع الرئيسية في المنطقة، فهي:
- بين السنة والشيعة: وهو محور بالغ الأهمية في العراق ولبنان وشبه الجزيرة العربية ودول الخليج، ولكنه غير مهم في الدول التي بها أعداد ضئيلة من الشيعة (أو لا يوجد بها شيعة على الإطلاق) مثل مصر.
- بين العرب وغير العرب: (الإيرانيين، الأكراد..).
- بين الأغنياء والفقراء.
- بين المعسكر الموالي لإسرائيل والولايات المتحدة والغرب، والمعسكر المعادي لتلك الكيانات.
أما أسوأ السيناريوهات المحتملة حسب نصوص التقرير (دون أي تغيير في التعبيرات)، فهي:
انهيار النظام في سوريا:
سيكون البديل الأكثر احتمالية لنظام الأسد إما نظام إسلامي في دمشق، أو فوضى واسعة النطاق، جميع الأطراف الدولية – باستثناء إيران على الأرجح – قد تخسر ، بينما سيكون أكبر الرابحين هم الأكراد والقاعدة وبنسبة أقل الإخوان المسلمون، وستتمثل العواقب المباشرة في زيادة كبيرة في أعداد اللاجئين، بينما ستعتمد الآثار طويلة المدى على مدى خطورة الأزمة التي ستندلع في أجزاء أخرى من المنطقة.
انهيار النظام في مصر:
سيكون الإخوان المسلمون هم الأكثر احتمالًا لوراثة النظام الحالي، كما سيربح كل الأعداء الإقليميون للغرب، بينما سيخسر حلفاء الغرب. وستكون النتيجة المباشرة انحسار بالغ لقدرة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على التأثير في الأحداث في الشرق الأوسط، بينما ستقوى مواقع الإسلاميين في المنطقة وفي المغرب العربي.
فشل عملية السلام في الشرق الأوسط:
حيث يتم التخلي عن خارطة الطريق، فمع أن السلطة الفلسطينية تختفي أو أصبحت عاجزة، ترفض إسرائيل تولى المسؤولية الكاملة عن الموقف في الأراضي المحتلة، بينما تشكك إيران، وسوريا، الأصوليون السنيون …إلخ في عملية السلام، ويربحون رأسمال رمزي يخسره الغرب وحلفاؤه الإقليميون الرئيسيون، وقد تكون عواقب الأزمة إرهاب موجه للغرب والمزيد من اللاجئين.
انهيار العراق:
إذا ما حدث انسحاب أمريكي ( التقرير مكتوب قبل الانسحاب الأميريكي) سيعقبه احتمالية فقدان حكومة بغداد السيطرة على أجزاء هامة من العراق، حيث يصبح الشمال الكردي مستقلًا بينما يتحول الوسط والجنوب إلى الفوضى. والرابحون من ذلك هم من يعارضون الحضور العسكري الغربي، وكذلك الأكراد فستتاح لهم الفرصة للحصول على الاستقلال. العواقب قد تكون بالغة الخطورة: موجة جديدة من تشكل الدولة يمكن أن تزعزع استقرار الدول المجاورة (تركيا وسوريا)، بجانب أعداد كبيرة من اللاجئين، وغالبًا ستتعرض إمدادات الطاقة للخطر.
انهيار النظام في الأردن:
قد تهدد نهاية المملكة الهاشمية بصورة جدية وجود تلك الدولة الاصطناعية، حيث سيحاول كلًا من الإخوان المسلمون والمتعاطفون مع القاعدة والمجموعات الفلسطينية واللاجئون العراقيون الانتصار على منافسيهم، أو على الأقل الاستحواذ على بعض مراكز السلطة. وكما هو الحال في مصر؛ سيكون أكثر الرابحين هم الأعداء الإقليميون للغرب، كما سيكون هنالك تصاعد لأعمال العنف ضد المصالح الغربية، كذلك من المحتمل حدوث انحسار بالغ للتأثير الغربي في المنطقة.
انهيار النظام في السعودية:
قد يعرض سقوط آل سعود وجود المملكة العربية السعودية كدولة للخطر، بل وتوازن شبه الجزيرة العربية بالكامل، وبينما سيخسر الغرب وحلفاؤهم الإقليميون، سيكون الإسلاميون الأصوليون هم الرابح الأكبر على الأغلب. بالإضافة إلى خسارة الغرب أحد حلفاءه الرئيسيين في الشرق الأوسط، كما قد تتعرض إمدادات الطاقة للخطر، كذلك سيجد الإرهابيون المعادون للغرب ملاذًا آمنًا.
هجوم غربي على إيران:
من المحتمل أن يطلق ذلك ردًا إيرانيًا ضد حلفاء الغرب في الخليج، بالإضافة إلى اضطرابات شيعية في أجزاء مختلفة من المنطقة. ستجني إيران والشيعة والقاعدة مكاسب من ذلك، بينما سيتضرر النفوذ الغربي الإقليمي بشدة؛ وستتأثر إمدادات الطاقة، كما قد يكون صعود العنف الجهادي نتيجة محتملة في أوروبا والولايات المتحدة، كما ستسعى أعداد هائلة للبحث عن مأوى في الدول الغربية بناءً على فترة الصراع ومدى شدته.
ونظرا لأهمية التقرير فقد نشر روبن آكروس وجوزيه بلاسيوس دراسة عنه بعنوان (أثر الاستخبارات على صنع القرار: الاتحاد الأوروبي والربيع العربي)، وبإذن الله قريبا ستُنشر ترجمة كاملة للتقرير المذكور والدراسة التي تناولته، والتي قال فيها الكاتبان إن تصنيف التقرير تحت بند “سري” يعود إلى حساسية المحتوى، إذ أنه قد يُتخذ كمؤشر على موقف الاتحاد الأوروبي. كما عزا الكاتبان تجاهل مسؤلي الاتحاد الأوروبي للتقرير إلى عدة أمور من بينها أنه لم يتناول ما إذا كانت تلك السيناريوهات يمكنها أن تتحقق في الأشهر أو السنين أو العقود القليلة التالية، وبالتالي انشغلوا بالقضايا الآنية والمشاكل التي يواجهونها في ظل عدم استشعارهم بوجود أزمة على وشك الحدوث. وهو ما أدى إلى صدمة في أوروبا بعد اندلاع الربيع العربي.
التعليقات