قال الله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً).
أرى أن إحدى أخطر معضلات الأمة الإسلامية المعاصرة؛ هي تيارات التخبط بين الفعل الخاطئ ورد الفعل الأكثر خطأ، وإنما هي في الحقيقة نتاج لحالة الجمود الفقهي وتغييب الاجتهاد الصحيح بضوابطه مما نتج عنه فقدان الثقة في العلماء وحالة الحيرة والتخبط العمياء التي تخوض الأمة لجتها، وهذا الخطر لا يقل عن بقية الأخطار الخارجية والداخلية العضال.
فالأمة كلها تتمزق بالفعل بين التيار الوهابي الذي جل بالمال زحفه قرابة قرن من الزمان وقامت بتصديره السعودية بدعوى ان هذا حكم الشريعة ودين السلف، وبين التيار المنسحق تحت وطأة الغرب والذي يتزعمه الدكتور الشيخ القرضاوي وبن بيه والريسوني وآخرون من بقايا مدرسة التجديد التي أرسى أصولها الأستاذ الشيخ محمد عبده ومن قبله الشيخ الأفغاني وإن اختلفت عنهما في بعض الأمور.
وبينما تصد الأولى عن سبيل الله وتعسر الدين والدنيا على الناس وتقصي من تبقى منهم بالتبديع والتكفير؛ تكاد الثانية أن تميع وتضيع أصوله وفروعه بدعوى المقاصد التي كثيراً ما تكون نوازعاً نفسية منسحقة أمام الغرب ومشدودة إليه.
فالاتجاه الأول قد عمل على تعميم مذهبه الفكري والاعتقادي الذي يميل إلى التشدد والتحريم والتبديع والتكفير بالجملة دون تفريق بين المختلف فيه والمجمع عليه أو الجمهور والراجح من أقوال أهل العلم؛ وبقواعد مستحدثة ما أنزل الله بها من سلطان بدعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها وأن السلف لم يفعلوها، ودون تفريق بين العاديات “والاصل فيها الإباحة” والعبادات “والأصل فيها التوقيف”؛ أو بدعوى أن هذا فهم السلف؛ والذي لا أدري من يحدده ومن يقرر أنه فهم للسلف أصلاً!
وأثبت هنا أنني أرى في تنظيم الدولة الإسلامية تطبيقاً عملياً معاصراً وأميناً لهذا الاتجاه وتلك المدرسة، وقد نشأت وترعرت على دراسة المناهج النجدية ووعيتها جيداً بخيرها وشرها، فلا أرى لعاقل أو منصف قرأ وفهم تلك المناهج؛ أن ينكر هذه الحقيقة.
وأما الاتجاه الثاني فقد جعل الغرب بمبادئه وتوجهاته الفكرية ومعاييره الأخلاقية؛ هي البوصلة والموجه لكثير من فتاويهم التي تتزيَ وتتزين بدعاوى العلوم المقاصدية -غير المتفق عليها- والتيسير والوسطية والاعتدال ورفع الحرج ونحوها.
وهو اتجاه جاء كرد فعل عاقل في بعض جوانبه؛ ضد الاتجاه الأول ولكنه في الاتجاه المعاكس تماماً، فبينما عمد الآخر إلى تجميد الدين عمد الأخير إلى تسييله!
وبينما تصد الأولى عن سبيل الله وتعسر الدين والدنيا على الناس وتقصي من تبقى منهم بالتبديع والتكفير؛ تكاد الثانية أن تميع وتضيع أصوله وفروعه بدعوى المقاصد التي كثيراً ما تكون نوازعاً نفسية منسحقة أمام الغرب ومشدودة إليه.
وكلا المدرستين لها من الحسنات والسيئات ما لا يبلغه علمي ولا يتسع له المقام، ولكنني أتحدث عن الحاصل والذي لابد له من حل لن يأتي به المتعصبون والحمقى على أي حال وإنما عصبة مؤمنة عاقلة عالمة حرة الفكر ورحيمة بهذه الأمة المنكوبة بنخبها وعلمائها قبل أعدائها.
التعليقات