والإحكام من أبرز معاني الحكمة، ولذلك يعرف ابن القيم الدرجة الأولي من الحكمة فيقول: (أن تعطي كل شيء حقه ولا تعديه وحده ولا تعجله عن وقته ولا تؤخره عنه) ثم يقول: وهذا الحكم عام لجميع الأسباب مع مسبباتها شرعاً وقدراً فأضاعتها تعطيل للحكمة بمنزلة إضاعة البذر و سقي الأرض و تعدي الحد كسقيها فوق حاجتها بحيث يغرق البذر و الزرع ويفسد وتعجيلها عن وقتها كحصاده قبل أوانه وكماله)(1).
وإحكام الفكر يعني تنظيم العلاقات بين حقائق الفكر الإسلامي إذ أن لكل حقيقة في الإسلام حد لا ينبغي تجاوزه والمساواة بين الحقائق في كونها (فكرة إسلامية) من أهم أسباب الاضطراب في محاولة تحديد منهج الحركة، ومن هنا جاءت تعبيرات النبي صلى الله عليه وسلم بما يفيد العلاقات المنظمة بين الحقائق.
- فمثلاً نجد التعبير بـ (أم الكتاب) الذي جاء في قولة صلى الله عليه وسلم: (لا صلاه لمن لم يقرأ بأم الكتاب)(2).
- والتعبير بـ (سيد الاستغفار) الذي جاء في قوله صلى الله عليه وسلم (ألا أخبرك بسيد الاستغفار)(3) .
- والتعبير بـ (رأس الأمر) الذي جاء في قوله صلى الله عليه وسلم ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه: (الجهاد) (4).
فتعبيرات (أم) و(سيد) و(رأس) تفيد العلاقة.
وكذلك نجد في تعبير النبي صلى الله عليه وسلم حرصاً علي ألا يطغي مفهوم علي مفهوم تحقيقاً للإحكام بين المفاهيم، مثال قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم علي الله)(5) ثم قرأ: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ 21 لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) (سورة الغاشية: آيه: 22:21) وذلك حتى لا تطغى مهمة القتال على مهمة التذكير في فهم الناس.
وأساس الإحكام الفكري في الإسلام هو أن تكون كل الحقائق متجهة نحو غاية نهائية واحدة. ولتحقيق ذلك يجب قياس كل حقيقة إلي غايتها..
وكذلك عندما بين النبي صلى الله عليه وسلم بأن الوضوء وصلاة ركعتين وراءه يغفر ما تقدم من الذنوب فإنه يحقق الإحكام بين الرجاء والغرور، عن حمران قال: كان عثمان رضى الله عنه قاعداً في المقاعد فدعا بوضوء فتوضأ ثم قال: رأيت رسول الله عليه وسلم توضأ في مقعدي هذا ثم قال: (من توضأ مثل وضوئي هذا ثم قام فركع ركعتين غفر له ما تقدم من ذنبه)(6) وقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (….ولا تغتروا).
وكذلك عندما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مؤمن يموت له ثلاث أولاد إلا كانوا له حجاباً من النار)(7)، فإنه عليه الصلاة والسلام يستثني استثناء هاماً فيقول: (إلا تحلة القسم) وهو قول الله (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا)(سورة مريم الآية : 71). وبذلك تتقرر حقيقة الحجاب من النار بموت الثلاثة أولاد مع حقيقة الورود عليها تحلة للقسم دون تناقض.
وأساس الإحكام الفكري في الإسلام هو أن تكون كل الحقائق متجهة نحو غاية نهائية واحدة. ولتحقيق ذلك يجب قياس كل حقيقة إلي غايتها، فمثلاً:حقيقة الإيمان تقاس بقول (لا إله إلا الله) بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق…. والحياء شعبة من الإيمان)(8).
وحقيقة العمل تقاس بالصلاة بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سئل: أي العمل أفضل قال: الصلاة علي وقتها، قيل: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قيل: ثم أي، قال: الجهاد في سبيل الله (9). وقوله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله)(10).
وقيمة الإحكام الفكري في الإسلام ترجع أساساً إلي أن هذا الإحكام الفكري هو المقدمة الطبيعية للإحكام التطبيقي، الذي يضمن قيام الواقع الإسلامي بصبغته الخالصة كما أرادها الله سبحانه.
وحقيقة المقام والمكانة تقاس إلي مقام النبوة بدليل قول الله عز وجل: (فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا) ( سورة النساء الآية : 69) وقول النبي صلي الله عليه وسلم (أنا كافل اليتيم في الجنة هكذا) (11)، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطي، وقوله: (التاجر الأمين الصدوق مع النبيين والصدقين والشهداء والصالحين )(12)…. وهكذا.
وقيمة الإحكام الفكري في الإسلام ترجع أساساً إلي أن هذا الإحكام الفكري هو المقدمة الطبيعية للإحكام التطبيقي، الذي يضمن قيام الواقع الإسلامي بصبغته الخالصة كما أرادها الله سبحانه. والحكمة هي أساس تحقيق هذه الصبغة، لأن الحكمة هي الحكم التطبيقي بين الحقائق.
فلا يجوز أن تأخذ الدعوة صورة كلامية بحتة أو صورة قتالية بحتة… أو صورة اعتزالية بحتة… رغم أن التبليغ بالكلمة حق شرعي في ذاته…. والقتال حق شرعي في ذاته…. والاعتزال أو الهجرة حق شرعي في ذاته. ولكن الحكمة هي التي تعطي لكل حق شرعي في ذاته حق التطبيق في الواقع… ومن هنا يجب أن تكون هناك حساسية شديدة في قبول أي صورة تطبيقية للفكر في الواقع.
وعلى أساس الارتباط بين الحكمة والإحكام كان التقابل بين الحكمة والبدعة ذلك أن البدعة هي في تطبيقها فكرة دخيلة علي إطار الفكر الإسلامي المُحكم..
وهؤلاء هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكون رجلاً إلي رسول الله لأنه يقرأ في كل صلاة بسورة: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (13) رغم أن الفعل جائز شرعاً إلا أنهم رأوا في هذا العمل مظهراً جديداً في التطبيق.
وعلى أساس الارتباط بين الحكمة والإحكام كان التقابل بين الحكمة والبدعة ذلك أن البدعة هي في تطبيقها فكرة دخيلة علي إطار الفكر الإسلامي المُحكم وقد أورد الإمام ابن تيميه في التقابل بين الحكمة والبدعة قول الإمام أبو عثمان النيسابوري (من جلس إلي صاحب بدعة حرم الحكمة) كما قال: (من أمّر السنة على نفسه قولاً وعملاً نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه قولاً وعملاً نطق البدعة )(14).
وأقرب تشبيه للعلاقة بين الحقائق في واقع الفكر الإسلامي هي العلاقة بين العناصر الكونية التي تشكل بصفة دقيقه الواقع الكوني. وتماماً مثلما يتجاوز العنصر الكوني حدوده فتنشأ الظواهر الكونية المدمرة، كذلك تكون الحقيقة عندما نتجاوز بها حدودها في واقع الدعوة.
ولنعمق هذا التصوير بمثال لحقيقة من الحقائق التي تجاوزنا بها حدودها لنرى آثار هذا التجاوز؛ (حقيقة الحذر) وحدودها الصحيحة في واقع الفكر؛ وهو حد (التوكل على الله) الذي نخوض به الأحداث، وحد (الإيمان بالقدر) الذي نتقبل به نتائج الأحداث.
وقد كانت ظاهرة الاتهام بالعمالة نتيجة مباشرة لفتنة الفكر، وذلك عندما تجاوز التفكير العقلي حد التوكل على الله والإيمان بالقدر، مع فقدان التآلف في مجال الدعوة..
ولكن بتجاوز الحذر لهذين الحدين صار الحذر (جبناً) يقعد عن العمل، و(ريبة) تفسد العلاقة وتبدد الاطمئنان، وأغرق تجاوزنا بحقيقة الحذر لحدودها واقع الدعوة بظاهرة مدمرة أشد تدميراً؛ وهي ظاهرة (الاتهام بالعمالة) التي هبطت بمستوى الثقة في مجال الدعوة بصفة عامة ولم تضر فقط بالعناصر التي أصابها هذا الاتهام، لأن افتراض وجود عميل بين المسلمين معناه افتراض العمالة في كل مسلم، والقاعدة أنه لا يوجد من هو فوق الشبهة. وهذا لا يرجع إلى واقع الشخصية الإسلامية ولكن يرجع إلى أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم. وبافتراض العمالة يضيع
الاطمئنان فلا تقوم علاقة ولا تكون جماعة ولا تصير دعوة وهذا هو البعد النهائي للافتراض.
وقد كانت ظاهرة الاتهام بالعمالة نتيجة مباشرة لفتنة الفكر، وذلك عندما تجاوز التفكير العقلي حد التوكل على الله والإيمان بالقدر، مع فقدان التآلف في مجال الدعوة، فصارت العلاقة الإنسانية في هذا المجال علاقة عقلية جافة، مهيأة لتقبل أي محاولة خبيثة لتفتيتها، ومن هنا يمكن القول بأنه إذا كان التآلف القلبي أساساً المنهجي من حيث الفكر فإنه في نفس الوقت أساس للاطمئنان الوجداني الذي يعتبر شرطاً جوهرياً للممارسة الحركية بعد الاتفاق المنهجي. والعلاقة الإنسانية في مجال الدعوة لا تقوم إلا بالاطمئنان المطلق والثقة الكاملة.
وهذا حديث يؤكد هذه الحقيقة: (عن أبي سعيد الخدري قال: خرجنا حجاجا ـ أو عمارا ـ ومعنا ابن صياد، قال: فنزلنا منزلاً فتفرق الناس وبقيت أنا وهو فاستوحشت منه وحشة شديدة مما يقال عليه (15) قال : وجاء بمتاعه فوضعه على متاعي، فقلت: أن الحر شديد فلو وضعته تحت تلك الشجرة، قال ففعل، قال فُرفعت لنا غنم فانطلق فجاء بعس فقال: اشرب أبا سعيد، فقلت: إن الحر شديد واللبن حار ـ ما بي إلا أني أكره أن أشرب عن يده، أو قال آخذه عن يده ـ فقال يا أبا سعيد: لقد هممت أن آخذ حبلاً فأعلقه بشجرة ثم أختنق مما يقول الناس، يا أبا سعيد: من خفي عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي عليكم معشر الأنصار، ألست من أعلم الناس بحديث رسول الله عليه وسلم؟ أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو كافر (16) وأنا مسلم؟ أو ليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو عقيم لا يولد له وقد تركت ولدى بالمدينة؟ أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخل المدينة ولا مكة وقد أقبلت من المدينة وأنا أريد مكة؟ قال أبو سعيد الخدري: حتى كدت أن أعذره، ثم قال (أما و الله إني لأعرفه وأعرف مولده وأين هو الآن) قال قلت له: تباً لك سائر اليوم)(17).
وإنهاء ظاهرة الاتهام بالعمالة لا يتحقق بالأساليب البوليسية التي قد يتصور البعض أنها وسيلة الاطمئنان، وذلك لسبب بسيط وهو أن الاتهام بالعمالة من الاتهامات التي تفقد المتهم قدرته في الدفاع عن نفسه.
فمن خلال هذا النص ندرك أنه كان هناك اقتناع عقلي ببراءة ابن صياد من الاتهام ولكن هذا الاقتناع لم يكن كافياً لقيام علاقة حقيقية، بدليل رفض أبي سعيد الخدري أن يكون متاعهم فوق بعضه، ورفضه أن يشرب اللبن من يده، ورغم كل ما ذكره له ابن صياد من أدلة، فإنه يقول: لقد كدت أعذره. أي أنه لم يعذره العذر الكامل.
كما ندرك إحساس المتهم بمن حوله من الناس، وكيف دفعه هذا الإحساس إلى قوله: (لقد هممت أن آخذ حبلاً فأعلقه بشجرة ثم أختنق مما يقول الناس). وهذا أقرب تعبير يكشف لنا الواقع النفسي لمن يعيش في موضع الاتهام بين الناس وهو بريء، وكما كانت عقلانية العلاقة الإنسانية في مجال الدعوة وجفافها جواً لظهور الاتهام بالعمالة، فإنها كانت عاملاً مساعداً على تضخيم تلك الظاهرة وذلك من خلال مواجهتها بصورة عقلية بوليسية بحتة.
وإنهاء ظاهرة الاتهام بالعمالة لا يتحقق بالأساليب البوليسية التي قد يتصور البعض أنها وسيلة الاطمئنان، وذلك لسبب بسيط وهو أن الاتهام بالعمالة من الاتهامات التي تفقد المتهم قدرته في الدفاع عن نفسه.
وأقرب تشبيه للاتهام بالعمالة في هذه الناحية هو الاتهام بالجنون، فمثلما تتحول محاولة المتهم بالجنون في الدفاع عن نفسه إلي ظاهرة من ظواهر الجنون في تصور الناس … فإن أي محاولة يحاولها المتهم بالعمالة للدفاع عن نفسه ستقابل في ذهن الناس على أنها سلوكاً يحتمه دور العمالة الذي يؤديه، فتضيع المحاولة هباء منثورا.
وبذلك نرى كيف وضع الاتهام بالعمالة الدعوة في طريق مسدود من حيث الاتهام ذاته ومن حيث فقدان القدرة على مواجهة ذلك الاتهام.وإذا كان العلاج قد بدا صعباً أو مستحيلاً فإنه يبدو سهلاً ممكناً في ضرورة إحكام العلاقة بين الحقائق الإسلامية من حيث التطبيق.
فإذا كان بجانب حقيقة الحذر… حقيقة التوكل على الله وحقيقة حسن الظن وحقيقة الإيمان بالقدر خيره وشره لتحقق الاتفاق بين الحقائق…. وهذا هو الإحكام… وتلك هي الحكمة.
التعليقات