الفشل الاستخباري في استشراف وقوع تغيرات جذرية

يرسم الكثيرون صورة أسطورية للأجهزة الاستخبارية، يتوهمون خلالها أنها لا تستشرف فقط وقوع الأحداث الكبرى في العالم إنما تصنع تلك الأحداث صناعة بما يحقق أهداف الجهات التي تعمل لصالحها تلك الأجهزة. وعلى الجانب الآخر نجد قادة وضباط ومحللي الاستخبارات يتحدثون عن عقبات ضخمة تواجه أجهزتهم في استشراف تلك الأحداث.

سأنقل في هذا المقال تحليلا هاما تناول خلاله باسكوفيتش أسباب فشل الاستخبارات الأمريكية في استشراف اندلاع الثورة الإيرانية وسقوط الاتحاد السوفيتي..

اللواء المتقاعد أفيزر ياري، المدير السابق لقسم الأبحاث في جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية “أمان” تناول هذا الموضوع في مقال نشره بجريدة هآرتز في عام 2005، وضرب أمثلة بثلاث حالات تعرض خلالها مجتمع الاستخبارات الأمريكي للمفاجئة، حدثان منهم مرتبطان بالأمن العسكري، وهما الغارة الجوية اليابانية على ميناء بيرل هاربور في 7 ديسمبر 1941؛ وهجمات 11 سبتمبر 2001 على مدينتي نيويورك وواشنطن، والثالث حدث سياسي له جذور اجتماعية واقتصادية على حد سواء، وهو سقوط وتفكك الاتحاد السوفيتي في ديسمبر 1991.

وفي المقال السابق تناولت أجزاء من مضمون دراسة بعنوان (تقييم الاستخبارات فيما يتعلق بالتطورات الاجتماعية.. الخبرة الإسرائيلية)، للباحث الصهيوني إيال باسكوفيتش الذي جمع بين العمل الأكاديمي والخبرة العملية كمحلل سابق في جهاز “أمان”، وسأنقل في هذا المقال تحليلا هاما تناول خلاله باسكوفيتش أسباب فشل الاستخبارات الأمريكية في استشراف اندلاع الثورة الإيرانية وسقوط الاتحاد السوفيتي، حيث شكل ذلك الفشل اثنتين من أكبر المفاجآت الاستراتيجية التي واجهها مجتمع الاستخبارات الأمريكية في القرن العشرين.

حسب باسكوفيتش، فإن التطورات الاجتماعية والاقتصادية غالبا ما تكون متداخلة؛ فالمشاكل الاقتصادية تولد عدم استقرار مجتمعي، والعكس صحيح – فالاستقرار الاقتصادي قد يسهم في تعزيز النظام الاجتماعي، ومن ثم يدعم استقرار النظام. وعشية اندلاع الثورة في طهران، كانت المشاكل الاجتماعية والاقتصادية تتصدر قائمة المصاعب التي يواجهها المواطنون الإيرانيون. ومع احتكار نظام الشاه للقوة والسلطة، وتسريع وتيرة عملية الإصلاح الداخلي، تزايدت المصاعب في تناقض حاد مع ثروة الدولة الغنية بالنفط.

إن التقييمات المعيبة التي توصل إليها باحثو وكالة الاستخبارات المركزية بشأن مستوى الإحباط الاجتماعي الإيراني، وصمود نظام الشاه، وحرصه على استخدام القوة، شكلت الأساس لفشل التقييم الأمريكي.

شكلت الأساليب الديكتاتورية التي طبقها نظام الشاه سببا إضافيا للاستياء. وقد اقترن ذلك بمحاولات الشاه لتقليص دور الدين في الحياة العامة، وتعزيز الولاء للنظام الملكي بدلا من الإسلام بالتزامن مع تزايد وجود القوى الغربية في إيران، وخاصة الولايات المتحدة.

أدت هذه الإجراءات في نهاية المطاف إلى وقوع احتقان بين صفوف الشعب الإيراني. لكن هذا الاحتقان بقي خافيا إلى حد كبير عن أجهزة الاستخبارات الأمريكية، أو على الأقل، كان تقديرها له أقل مما ينبغي. واعتقد خبراء وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) أن احتمال حدوث ثورة في إيران كان ضئيلاً. وحتى بعد أن بدأ الشاه يفقد قوته، ذهبوا إلى أنه سيكون قادرًا على الاستمرار، وقمع الثورة.

إن التقييمات المعيبة التي توصل إليها باحثو وكالة الاستخبارات المركزية بشأن مستوى الإحباط الاجتماعي الإيراني، وصمود نظام الشاه، وحرصه على استخدام القوة، شكلت الأساس لفشل التقييم الأمريكي.

وقد اقترنت تلك العوامل بإلمام السي آي إيه السطحي بالمعارضة الإيرانية، وخاصة المعارضة الدينية، وندرة المتحدثين باللغة الفارسية من عناصر الوكالة. وقد مثل الافتقار إلى المعرفة الكافية بالثقافة المحلية وطريقة الحياة الإيرانية والمنظور العرقي الغربي للوضع الإيراني عقبة أمام الاستخبارات الأمريكية. ومن ثم أدى فشل الاستخبارات الأمريكية في إدراك مدى خطورة الأحداث في الوقت المناسب إلى توريط واشنطن في أزمة رهائن سفارة الولايات المتحدة في طهران، كما كان سببا مهما لفشل الرئيس جيمي كارتر في الفوز بإعادة انتخابه لولاية ثانية في البيت الأبيض.

وفي مثال آخر، كان عجز وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية عن التنبؤ بانهيار الاتحاد السوفيتي أكثر دويا في ضوء اعتبار أن الاتحاد السوفيتي شكل التهديد الرئيسي لمصالح الولايات المتحدة على مدى عشرات السنين. ففي هذه الحالة أيضا، تضافرت الظروف الاقتصادية والاجتماعية السوفياتية لتساهم في سقوط الإمبراطورية الشيوعية. ومع ذلك، فقد أسئ تفسير هذه الظروف من قبل أجهزة الاستخبارات الأمريكية، وكذلك من قبل أجهزة استخبارات بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإسرائيل وجميع الدول الغربية الأخرى، كما أن جهاز الكي جي بي الروسي في معرض دفاعه عما حدث قال أنه فوجئ أيضا بكثافة الأحداث بالرغم من العلامات المبكرة للأزمة خلال عهد ميخائيل غورباتشوف، وضعفه الداخلي، والصحوة القومية في الجمهوريات السوفيتية.

كان السبب الرئيسي للفشل الأمريكي هو المبالغة في تقدير أداء الاقتصاد السوفياتي خلال سبعينيات القرن العشرين وخاصة خلال الثمانينيات.

ووصولا إلى الأيام الأخيرة للاتحاد السوفيتي، حافظ العديد إن لم يكن معظم خبراء السي آي أيه المختصين في الشأن السوفيتي على ما كان يمكن اعتباره مفهومًا عقائديًا – وهو ما قد يمثل العدو الأول لعملية تقييم الاستخبارات. فقد استمروا في تصوير الاتحاد السوفيتي كقوة عظمى، والشيوعية كأيديولوجية تسعى لتغيير الوضع الراهن والعمل ضد المصالح الغربية. في حين أن غورباتشوف كان قد قدم بالفعل نداءات يائسة لدمج موسكو في المجتمع الدولي وفقًا للشروط الغربية.

كان السبب الرئيسي للفشل الأمريكي هو المبالغة في تقدير أداء الاقتصاد السوفياتي خلال سبعينيات القرن العشرين وخاصة خلال الثمانينيات. ففي الواقع، تناولت الأوراق التحليلية لوكالة الاستخبارات المركزية باستمرار التباطؤ المستمر للاقتصاد السوفياتي، ولكن حتى ذلك الحين، كان هناك توجها إلى تقديمه في صورة أقوى مما كان عليه في الحقيقة. فشلت تحليلات مجتمع الاستخبارات الأميركي للبيانات الاقتصادية السوفياتية – التي جُمعت بشكل رئيسي من المصادر المفتوحة – في تحقيق الفهم الكافي للثقافة السوفياتية للتقارير الخادعة التي قدمها أمناء الحزب الشيوعي في المناطق المختلفة إلى المقر الرئيسي في موسكو، والتي نتجت عن المبدأ التوجيهي للنظام الشيوعي والمتمثل في أن الشخص الذي يعترف بالفشل يتحمل العواقب. كان لهذه المصاعب الاقتصادية تأثير كبير على كل من مستوى التماسك الداخلي في الاتحاد السوفيتي، واستقرار النظام.

التقييمات الأمريكية بشأن القوة العسكرية للاتحاد السوفيتي والإنفاق العسكري السوفيتي كانت في الواقع مبالغة في التقدير. وفي هذا السياق أيضا، تصاعدت مزاعم بتسيس الاستخبارات الأمريكية، مما دفع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ووكالة استخبارات الدفاع (المخابرات العسكرية الأمريكية) إلى تشجيع البيت الأبيض على تسريع سباق التسلح واتخاذ خطوات حازمة ضد الاتحاد السوفيتي بناء على تقييمات منحازة عن تعمد. ثم كانت المفاجئة بسقوط وتفكك الاتحاد السوفيتي.

تلك الأمثلة دفعت باسكوفيتش للقول ضمن دراسته المذكورة (نكتشف مراراً وتكراراً أننا ندرك الأحداث فقط في وقت متأخر، ونجد أنفسنا مندهشين).

مصدر المقال: موقع البوصلة

التعليقات