النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية (11)

بنهاية الحرب العالمية الثانية انهار المشروع الألماني لفرض السيادة على أوروبا، وسقطت العاصمة الألمانية في قبضة احتلال رباعي أميركي وروسي وفرنسي وبريطاني، ثم جرى تقسيم ألمانيا إلى دولتين منفصلتين. وكذلك تحطم المشروع الياباني الساعي للسيطرة على شرق آسيا والمحيط الهادي، كما تراجعت القوة البريطانية بفعل النزيف البشري والاقتصادي أثناء الحرب، فأخذت بريطانيا تقلص من التزاماتها الخارجية، فانسحبت من الهند، وتخلت عن التعهد بحماية تركيا واليونان لتكل ذلك إلى أميركا، وأعادت نشر قواتها المتواجدة في مصر حول قناة السويس فقط. أما فرنسا فصارت تحاول لملمة جراحاتها بعد وقوعها في قبضة ألمانيا لأربع سنوات تعرضت خلالها لاستنزاف اقتصادي كبير. وفي تلك الآونة برز قطبان جديدان هما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي.

التمدد الأميركي

كانت أميركا هي الرابح الأبرز من الحرب العالمية الثانية، فهي القوة العظمى الوحيدة التي خرجت من الحرب أكثر ثراء مما كانت عليه قبلها، فازداد اجمالي دخلها القومي بمعدل 50% في حين انخفض نظيره الأوروبي إلى 25% مما كان عليه قبل الحرب، وصارت أميركا توفر ثلث احتياجات العالم من الصادرات. وأضحى أسطولها البحري الذي يضم عشرات حاملات الطائرات أكبر أسطول من نوعه، وتجاوز تعداده وقوته أسطول البحرية الملكية البريطانية. كما امتلكت أميركا القنابل النووية التي أدهشت العالم آنذاك، وانتشرت القوات الأمريكية في أنحاء الأرض، فوصل عدد الفرق الأمريكية في عام 1945 إلى 69 فرقة في أوروبا، و26 فرقة في آسيا والمحيط الهادي. ووضعت أميركا بذلك يدها على معظم الموارد الاستراتيجية في العالم من معادن ونفط ومطاط. وقد تمثلت خطوط العمل الأمريكية آنذاك في ثلاثة محاور:

  1. تأسيس قواعد عسكرية في الأماكن الاستراتيجية عبر العالم.
  2. إبرام معاهدات أمنية مع الدول الحليفة.
  3. مد النفوذ الاقتصادي إلى الدول المتواجد بها قواعد عسكرية أمريكية أو التي عقدت تحالفات أمنية مع أميركا.

ومن ثم صارت روسيا في نهاية الحرب عملاقا عسكريا وقزما اقتصاديا. وسعى الروس لتقليص الفوارق التقنية بين روسيا وأميركا عبر الاستعانة بالعلماء من الأسرى الألمان..

الانبعاث السوفيتي:

تحمل الاتحاد السوفيتي وطأة الحرب العالمية الثانية أكثر من غيره، حيث خسر السوفييت قرابة 15 مليون قتيلا خلال الحرب. ورغم تلك الخسائر الضخمة إلا أن الحرب انتهت بتمكن الروس من السيطرة على معظم أوروبا الشرقية (مثل: بولندا، وتشيكوسلوفاكيا، ورومانيا، وبلغاريا، والمجر) وصولا إلى أجزاء من العاصمة الألمانية برلين. ولكن هذا التمدد العسكري جاء على حساب الوضع الاقتصادي، حيث ركزت روسيا أثناء الحرب على التصنيع العسكري في مقابل خفض معدلات الإنتاج الصناعي المدني والزراعي، ومن ثم صارت روسيا في نهاية الحرب عملاقا عسكريا وقزما اقتصاديا. وسعى الروس لتقليص الفوارق التقنية بين روسيا وأميركا عبر الاستعانة بالعلماء من الأسرى الألمان لتطوير الصناعة العسكرية. وقد أثار النظام السوفيتي بجيوشه الضخمة، وموارده المهولة، وأفكاره الشيوعية الثورية، وهيمنته على شرق أوروبا، مخاوف أميركا وحلفائها.

تفكك التحالف الروسي الأميركي

مع نهاية الحرب العالمية، واندلاع حروب أهلية بين الشيوعيين ومناهضيهم في اليونان والصين، وتنامي قوة الأحزاب الشيوعية في إيطاليا وفرنسا، بدأ الحديث في الغرب يتصاعد حول الخطر الأحمر الذي يمثله السوفييت، وجرى تدشين صراع أيدولوجي بين الغرب الرأسمالي وفي مقدمته أميركا، وروسيا الشيوعية.

وقع أول نزاع بين الطرفين حول ترسيم نطاق النفوذ في أوروبا، حيث حرص الروس على تأسيس أنظمة شيوعية في شرق القارة الأوروبية تدين بالولاء لموسكو. ثم ازدادت المخاوف الغربية إثر تمكن الشيوعيين الصينيين من السيطرة على الصين في عام 1949.

تلك التطورات دفعت أمريكا إلى تنفيذ مشاريع اقتصادية وانمائية بعنوان (خطة مارشال) في أوروبا فضلا عن اليابان من أجل تقوية تلك الدول وبالأخص ألمانيا كي تقف كحائط صد أمام الطموحات الروسية. كما عملت أميركا على تأسيس حلف الناتو ليمثل مظلة لتقديم المساعدة الأمريكية للدول الأوروبية في حال تعرضها لهجوم روسي، وبذلك تولت أميركا بدلا من بريطانيا دور فرض التوازن في القارة الأوروبية. وبدأ عصر الاعتماد الأوروبي على أميركا في توفير الأمن والاحتياجات الاقتصادية.

ورغم تماهي أميركا مع المساعي البريطانية الساعية لتثبيت وضع فرنسا كقوة أوروبية رغم انحدار القوة الفرنسية، بغرض حفظ التوازن ضد روسيا، والذي برزت تجلياته في منح فرنسا مقعدا دائما في مجلس الأمن. إلا إن أميركا عملت بعد الحرب على تجريد فرنسا وبريطانيا من ممتلكاتهما الإمبراطورية خارج أوروبا، وبرز ذلك بجلاء في إصدار الرئيس الأميركي إيزنهاور إنذارا هدد فيه بريطانيا وفرنسا بالتدخل ضدهما ان استمرا في عدوانهما على مصر رفقة إسرائيل عام 1956. وهو ما برهن أن عصر المغامرات الأوروبية خارج القارة دون استئذان أميركا قد انتهى.

وقد عكس تشكيل الأمم المتحدة مصالح الدول المنتصرة في الحرب والتي احتفظت لنفسها بخمسة مقاعد دائمة في مجلس الأمن..

إنشاء الأمم المتحدة

أثبتت عصبة الأمم عدم جدواها في حل النزاعات، ومن ثم حرصت الدول المشاركة في التحالف ضد دول المحور على الإعلان في عام 1942 عن إصدار إعلان باسم (الأمم المتحدة) تعهدت خلاله بمواصلة الحرب ضد المحور. وفي عام 1945 أُعلن عن تأسيس منظمة جديدة باسم الأمم المتحدة تعنى بحفظ الأمن والسلم الدوليين. وقد تشكلت الأمم المتحدة من 6 مؤسسات هي: الجمعية العامة، ومجلس الأمن، والأمانة العامة، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، ومحكمة العدل الدولية (الجديدة). وقد عكس تشكيل الأمم المتحدة مصالح الدول المنتصرة في الحرب والتي احتفظت لنفسها بخمسة مقاعد دائمة في مجلس الأمن (أميركا، روسيا، فرنسا، الصين، بريطانيا)، وبحق النقض (الفيتو) على قرارات المجلس.

النظام الاقتصادي الدولي الجديد:

بالتوازي مع المستجدات السياسية والعسكرية، دشنت أميركا نظاما اقتصاديا عالميا جديدا يتواءم مع احتياجات الرأسمالية الغربية، ويعتمد على 3 مؤسسات هي:

  1. البنك الدولي للإنشاء والتعمير، ويختص بمعالجة قضايا التمويل الخاصة بمشاريع إعادة إعمار ما دمرته الحرب. ثم تحول دوره إلى تمويل عمليات التنمية وفقا للمنظور الرأسمالي. وقد تأسس البنك عام 1944.
  2. صندوق النقد الدولي، ويختص بالعمل على استقرار أسعار صرف العملات، ويستند إلى نظام الحصص، بحيث تُحدد حصة كل دولة وفقا لناتجها القومي وحجم تجارتها الدولية. وقد تأسس الصندوق عام 1944.
  3. الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة (الجات). وتهدف إلى تحرير التجارة الدولية عبر تخفيض الرسوم الجمركية. وقد عُقدت الاتفاقية عام 1947، وظلت سارية إلى أن حلت محلها منظمة التجارة العالمية عام 1994.

وقد رفض الاتحاد السوفيتي الانضمام إلى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وأسس مؤسسات بديلة انضمت لها الدول الشيوعية. وتنافس السوفييت مع أميركا على الهيمنة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1990، وهو ما سنستعرض معالمه في الحلقة القادمة بإذن الله.

المصادر:
(نشوء وسقوط القوى العظمى)، بول كينيدي، ط3. الأهلية للنشر والتوزيع، 2007.
(تطور السياسة الدولية في القرنين التاسع عشر والعشرين) محمد السيد سليم- ط1. كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، 2002.
مصدر المقال: موقع البوصلة

التعليقات