أوهام كيسنجر وصخور أفغانستان

تبين أن التحذيرات الأولية حول تاريخ أفغانستان بوصفها أنها ’’مقبرة للإمبراطوريات’’ تحذيرات بلا أساس. فبعد عمل سريع قادته قوات أمريكية وبريطانية وأفغانية حليفة، أُطيح بحكم حركة طالبان من السلطة…وبدت أهداف قوى التحالف متحققة ومنجزة.

هو أحد أبرز العقول السياسية الأمريكية في القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين، ويُعد أحد رواد المدرسة السياسية الواقعية الأمريكية.

كانت تلك فقرة وردت في كتاب (النظام العالمي: تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ)، وهو الكتاب الذي نشره هنري كيسنجر بالإنجليزية في عام 2014. لكن مضمون كلامه سرعان ما بددته اتفاقية وقف اطلاق النار المنعقدة بالدوحة بين أميركا وحركة طالبان في عام 2020.

وقبل التعليق على الفقرة المذكورة سأتطرق للتعريف بكيسنجر أولا، فهو أحد أبرز العقول السياسية الأمريكية في القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين، ويُعد أحد رواد المدرسة السياسية الواقعية الأمريكية. وُلد كيسنجر عام 1923 في ألمانيا ومازال على قيد الحياة حتى اليوم، حيث يبلغ عمره 97 سنة ليتخطى عمر والده الذي تُوفي عن 95 عاما، ويماثل عمر والدته التي توفيت عن 97 عاما.

هاجر كيسنجر رفقة أسرته اليهودية من ألمانيا إلى أميركا عام 1938 هربا من تضييق الحزب النازي على اليهود، وخدم كيسنجر في الجيش الأميركي أثناء الحرب العالمية الثانية ثم تولى التدريس في مدرسة الاستخبارات في القيادة الأوروبية بالجيش الأميركي بعد انتهاء الحرب. وحصل لاحقا على شهادتي الماجستير والدكتوراه في العلوم السياسية حيث عمل أكاديميا في جامعة هارفارد. وبحلول عام 1969 عمل كيسنجر مستشارا للأمن القومي الأميركي وصولا إلى عام 1975، كما عمل وزيرا للخارجية الأمريكية من عام 1973 إلى عام 1977. وخلال تلك الفترة برز اسمه كمنظر أكاديمي وسياسي رفيع المستوى، وحصل في عام 1973 على جائزة نوبل للسلام لدوره في مفاوضات السلام مع الفيتناميين بباريس لإنهاء الانخراط الأميركي في حرب فيتنام.

كما تطرق كيسنجر إلى كتاب ’معالم في الطريق’ للأستاذ سيد قطب، ووصفه بأنه (إعلان حرب على النظام العالمي المعاصر).

وكذلك برز اسم كيسنجر كمهندس لعملية الانفتاح الأميركي على الصين في سبعينات القرن العشرين، كما لعب دورا كبيرا في التوصل لوقف اطلاق النار بين مصر وسوريا من طرف والكيان الصهيوني من طرف آخر في حرب أكتوبر 1973.

ورغم ابتعاده عن المناصب الرسمية الأمريكية إلا أن كيسنجر ما زال يلعب دورا بارزا في السياسة العالمية من خلال عمله كمستشار في مجال الاستشارات الجيوسياسية الدولية.

وفي عام 2014 أصدر كيسنجر كتابا مهما بعنوان (النظام العالمي: تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ) استعرض خلاله تطور النظام الدولي عبر عصور مختلفة مع التركيز على النظام الدولي منذ القرن السابع عشر حتى اليوم. وفي ثنايا الكتاب تطرق كيسنجر إلى كبار المصلحين الإسلاميين في القرن العشرين حيث تحدث عن مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا ورسالته ’نحو النور’ قائلا أن اغتيال البنا في عام 1949 عن عمر 43 سنة لم يمنحه الوقت لتقديم تفسير تفصيلي لكيفية التوفيق بين الطموح الثوري لمشروعه الهادف إلى تغيير العالم من ناحية، ومبادئ التسامح العابرة للحضارات التي تبناها من ناحية ثانية.

كما تطرق كيسنجر إلى كتاب ’معالم في الطريق’ للأستاذ سيد قطب، ووصفه بأنه (إعلان حرب على النظام العالمي المعاصر). كما استعرض كيسنجر في كتابه تنظيرات الخميني، والأدبيات الصينية والهندية في مجال العلاقات الدولية، وهو ما جعل الكتاب يمثل تحفة فنية تجول عبر أنحاء العالم، وفي أعماق التاريخ، لتشرح منظورات متنوعة لحضارات مختلفة عن كيفية بناء نظام عالمي عادل.

دروس التاريخ ينبغي ألا يُستخف بها تأثرا بلحظة آنية عابرة، فمن يتجاهل حقائق التاريخ ودروسه ستتحطم أحلامه على صخور الواقع.

ورغم اتساع المعرفة والخبرة العملية التي يتسم بها كيسنجر إلا أنه فشل فشلا ذريعا في فهم وتحليل المشهد الأفغاني، وأصدر حكما متسرعا بأن أميركا وحليفاتها حققوا أهدافهم في أفغانستان. وأسهب في الحديث عن الجهود الأمريكية الساعية لبناء حكومة أفغانية ديموقراطية تعددية شفافة ذات سيطرة على مجمل البلاد رفقة جيش وطني أفغاني قادر على الاضطلاع بمسؤولية الأمن على أساس قومي – وطني، وشبه تلك الجهود بأنها مشابهة لعملية بناء صرح الديموقراطية في ألمانيا واليابان بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ثم جازف كيسنجر قائلا أن وصف أفغانستان بأنها ’’مقبرة الإمبراطوريات’’ وصف بلا أساس، وهو ما حدث عكسه إذ أجبر الأفغان أميركا على توقيع اتفاقية الانسحاب من أفغانستان، ورضخت واشنطن لشروط التفاوض التي أعلنتها حركة طالبان سعيا من إدارة ترامب لإنهاء أطول حرب في التاريخ الأميركي والتي بلغت 19 عاما حتى الآن. ولم تنجح الجهود الأمريكية مطلقا في إقامة أي حكومة أفغانية وفق تلك المعايير التي وصفها كيسنجر.

إن الغرض من إيراد تلك الفقرة من كتاب كيسنجر، يتمثل في بيان أن دروس التاريخ ينبغي ألا يُستخف بها تأثرا بلحظة آنية عابرة، فمن يتجاهل حقائق التاريخ ودروسه ستتحطم أحلامه على صخور الواقع. كما أن الشعور بالقوة والعظمة والتفرد لدى الدول الكبرى يغريها بارتكاب حماقات سياسية تدفع ثمنها غاليا. وأن بإمكان الشعوب المستضعفة أن تهزم القوى الكبرى متى ما استثمرت نقاط قوتها ونقاط ضعف خصومها.

المصدر: موقع البوصلة