إن تأملتَ في ديناميات العمل الإسلامي لابُدَّ وأن تلحظ مشكلةً يقع فيها كثيرٌ من المنتسبين للحركة الإسلامية، هذه المشكلة هي أنَّ الانسان لا يريد أن يفعل إلا ما يحب أن يفعله، ولا ينشط إلا فيما تهواه نفسه، ولا شك أن هذه المشكلة تعود بأثرٍ سيءٍ على الحركة الإسلامية أفرادًا وتجمعات؛ فتُهدر طاقات، وتتأخَّر برامج ومشروعات، بل وتقف وتلغى في كثير من الأحيان بسبب هذه المشكلة الخطيرة.
وهذه بعض الحلول الفكريَّة والعمليَّة لهذه المشكلة؛
أولا: الحلول الفكريَّة:
1ـ معرفة حقيقة التوحيد والشرك.
من المعروف أنَّ الشرك معناه أن تعمل العمل لغير الله، أو تعمله لله ولغيره، والحال أنَّ كثيرًا من الناس يغفل عن حقيقة أنَّ هذا (الغير) ربما يكون نفسه وهواه ، وقد حكى الله تعالى عن قومٍ فقال: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)، [1] وعليه فإنَّ المقصدَ الشرعيَّ من وضع الشريعة ـ كما قال الشاطبي رحمه الله ـ هو (إخراج المكلَّف عن داعية هواه، حتى يكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبدٌ له اضطرارًا)، [2] ثم استدل رحمه الله على ذلك بكثير من الأدلة، والأمر ظاهر لا يحتاج إلى سَوقِ الأدلة في هذا المقام.
والله تبارك وتعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه سبحانه، ففي الحديث (أنَّ رجلا أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليُذكر، والرجل يقاتل ليُرى مكانه؛ فمَن في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله أعلى فهو في سبيل الله)، [3] فالنفس تهوى الذكر وتميل إلى مواطن المراءاة والشهرة ولا يُنْجِيهَا إلا أن تناضل على التوحيد وفعلِ ما هو واجبٌ ـ بإيجاب الله تعالى له وحبِّ الله له ـ لا ما هو محبوبٌ للنفس وفقط، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع)،[4] فهذا عبدٌ لله، يفعل ما يُرضي الله، ولا يتَّبِعُ هواه، فاستحق أن يعلو في ميزان الشرع.
2 ـ الإيمان بأهمية الجماعة والتوظيف.
إنَّ المشروع الإسلامي بأسره قائمٌ على تجميع طاقات الموحِّدِين وتوظيفِها في أبواب الخير لتحقيق الهدف المرجوّ من هذا المشروع في الحياة، و(يُعدُّ التجمع حقيقة مهمة لتحقيق هذا الدين في حياة الناس، بل إنَّ الإسلام لا يُتصوَّر قيامه إلا في جماعة، ولوجاهة هذا الأمر وأهميته في بناء الدين، فإنَّ من أولئك السور التي نزلت في المرحلة المكيّة سورة العصر، تُبيِّنُ بوضوح أنَّ دعوة الإسلام لا تكون إلا في جماعة؛ قال تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)، [5] والفرد لا يُحيط علما بقدراته وما يحسنه، فيحتاج إلى ذي خبرةٍ يُخالِطُه وينبهه على ما يَصلح له من العمل، والإنسان لا يستطيع فعل كلِّ شيء بمفرده، وإنما يمكن أن يتكاملَ مع إخوانه، فيقوم ـ من خلال الجماعة والتوظيف ـ بعملٍ عظيمٍ ناجحٍ لا يمكن أن يُحصِّله بغير جماعةٍ وتوظيف.
3 ـ الوفاء للإلتزام والعهد.
إنَّ العهد الذي يلتزم به الإنسان عند مشاركته في العمل للإسلام يوجب عليه مسئوليةً تجاه العمل وتجاه العاملين معه في الدعوة، وقد قال الله تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) ؛[6] فالمؤمنُ وفِيٌّ لدعوته، وفِيٌّ لإخوانه، لا يُحلِّقُ في أهوائه الشخصيةِ بعيدًا عنهم ، فهو يعلمُ أنَّ للأُخُوَّةِ في الله حقوقًا يوجبها هذا الرباط المقدَّس، وتقدرها ظروف الواقع ومتطلبات العمل، ويعلم أن التقصير في هذه الحقوق لا يكون إلا لضعفٍ في الإيمان كما جاء عن بشر الحافي: (إذا قصَّر العبد في طاعة مولاه سلبه الله مَن يؤنسه) ،[7] ويعلم أيضًا أنَّ (الحرّ من راعى وداد لحظة وانتمى لمن أفاده لفظة). [8]
فالالتزام يُوجِبُ فعل ما تقتضيه الدعوة ويستلزمه العمل، ولو كان مخالفا لهوى الشخص، وإلا كان الشخص فوضويًّا، وكان العمل أيضًا فوضويًّا لا ثمرة له.
4 ـ أن يدرك الانسان أن انتقاله إلى حال أعلى لا يكون إلا بأن يقوم بأعمالٍ لا تهواها نفسه.
فإنَّ لكلِّ إنسانٍ تركيبتَه النفسيةَ والعاطفيةَ التي يحوز بها مكانًا مذكورًا في هذه الحياة الدنيا، هذه المكانة تتناسق مع رغباته النابعة من تركيبته تلك، فإذا أراد الإنسان أن ينتقل إلى مكانة أعلى من مكانته أو يتدرج من حال أعلى من حاله فلا بد وأن يقوم بأعمالٍ لا تهواها نفسه، ويصبر على فعلها حتى تصير هذه الأشياء له هواية، فتتغيَّر تركيبته النفسية والعاطفية، ويعودُ إنسانا مختلفا، ثم ينتقل هكذا مرَّةً بعد أخرى حتى تتطوَّر شخصيته وحياته.
وهذه ظاهرة طبيعية وإنسانية إن لم تحدث استمر الإنسان على بداوته الأولى لا يصنع شيئًا في الحياة.
ثانيا: الحلول العمليَّة:
1 ـ البحث عن التكليفات الملائمة.
أن يبحث الإنسان ويفتِّشَ عمَّا يجب عليه فعلُهُ، فإنَّ المؤمنَ يفعل ما يجب عليه لا ما تُمليه عليه نفسه، والتكليفات الشرعية هي تلك الواجبات الملائمة لإمكانيات الشخص مع مراعاة تغيُّرات الواقع، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (ولله سبحانه على كل أحد عبودية بحسب مرتبته سوى العبودية العامة التي سوى بين عباده فيها، فعلى العالِم من عبوديةِ نشر السُّنَّةِ والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل … وعلى الغنيِّ من عبوديةِ أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير، وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما … وقد غَرَّ إبليس أكثر الخلق بأنْ حَسَّنَ لهم القيامَ بنوعٍ من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع، وعطَّلُوا هذه العبوديات فلم يُحَدِّثوا قلوبهم بالقيام بها، وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقلِّ الناس دينًا، فإنَّ الدينَ هو القيام لله بما أمر به، فتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالا عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي فإنَّ ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي … ومَن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينا والله المستعان، وأيُّ دينٍ وأيُّ خيرٍ فيمن يَرى محارم الله تُنتهك وحدوده تُضاع ودينه يُترك وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرغب عنها وهو بارد القلب ساكت اللسان شيطان أخرس ـ كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق ـ، وهل بَليَّةُ الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سَلِمَت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين، وخيارهم المتحزِّن المتلمِّظ ولو نُوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل وجدَّ واجتهد واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بُلوا في الدنيا بأعظم بليةٍ تكون وهم لا يشعرون وهو موت القلوب، فإنَّ القلبَ كلما كانت حياته أتم، كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل). [9]
والواجبات الشرعية تُعرَفُ من خلال التأمل في الشرع والواقع مع مراجعة القيادات وبرامج المؤسسة التي يعمل بها.
2 ـ إجبار النفس على تنفيذ الواجبات ولو كانت مخالفة لهوى الانسان ومزاجه.
وهذه حقيقة الالتزام، ودليل الصدق في العمل للإسلام، وقد قال عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه: (بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ, وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ, وَأَنْ نَقُولَ ـ أَوْ نَقُومَ ـ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا, لا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ)، [10] هكذا كانوا، عملٌ في كل حال، سواءً أحبُّوا أو كرهوا، سهُل عليهم أو عَسُر، في حال الأمن أو في حال الخوف، ولذا قام بهم الدين، وعلا بهم أمره، فلا نجاح ولا فلاح للإنسان وللمشروع الإسلامي إلا بإلزام النفس ما تكره، وقد قالوا في التعليم : (التحصيل مع المقاساة يَثبُت في الذهن)، وكذلك الثمار لا تأتي إلا بمجاهدة الأشواك، وفرقٌ كبيرٌ بين أن يكون عملُك لدين الله تعالى هوايةً تُمارسها فقط عندما تحبّ، وبين أن تكون أنت بنفسك وحياتك وقفًا لله تعالى، يجدك حيث أمرك ويفتقدك حيث نهاك.
3 ـ أن يحاول الإنسان أن يُحِبَّ ما يفعله.
فإنْ فعل الإنسان فعلا لا تميل إليه نفسه فليُوطِّنها على حبِّه ولو كان شاقًّا عليها حتى يسهل عليها فعله، وقد ذكر ابن القيم من الأسباب الموجبة لمحبة الله تعالى: (إيثار محابِّه على محابِّك عند غلبات الهوى، والتسنم إلى محابه وإن صعب المرتقى)، [11] يفعل ذلك حتى يصير هواه تبعا لما يريده الله منه، فيهوى الحقَّ ويُحبُّه ولو شقَّ اتِّباعه على أكثر الخلق، ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الخصلة الأولى التي يجد بها المرء حلاوة الإيمان: (أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما)، وكذلك يستطيع الإنسان أن يُوطِّن نفسه على بُغضِ المخالفات حتى ولو كانت محبَّبةً إلى نفوس الناس، فالخصلة الثالثة التي يجد بها المرء حلاوة الإيمان هي: (أن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار). [12]
4 ـ عدم الانسياق وراء الرأي المتفرِّد الذي لا يتناغم مع خط الحركة وممارساتها.
تفرُّد الرأي غالبا ما يكون دليلا على ضعفه، فإن تجارب الحركة تكفل القرب من السداد في الرأي، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (إياكم والفرقة وعليكم بالجماعة، فإنَّ الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد)، [13] فالاجتماع على الرأي يضمن سلامته وفعاليته ، ويؤتي ثمرة نافعة يسعد بها المؤمنون في الدنيا والآخرة.
هذه بعض الحلول لمشكلةٍ لطالما أئَّرت في سير الأعمال الدعوية، وكانت سببا في تخلُف بعض العاملين للإسلام عن مسايرة ركب الحركة الإسلامية، أسأل الله تعالى أن يُبصِّرنا بعيوبنا، وأن يُعينًنا على تداركها، فهو سبحانه نعم المولى ونعم النصير.
الهوامش
([1]) سورة الجاثية الآية: 23.
([2]) الموافقات في أصول الشريعة لأبي إسحاق الشاطبي، المجلد الأول ص: 379 ط: دار الحديث.
([3]) صحيح مسلم (1904) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
([4]) صحيح البخاري (2730) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
([5]) منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة من خلال السيرة الصحيحة، أ. د. محمد أمَحزون، ص: 152 ط: دار السلام.
([6]) سورة الإسراء الآية: 34.
([7]) إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، ص: 187 وفيه كلامٌ نفيسٌ عن حقوق الأُخُوَّة.
([8]) هذه الحكمة منسوبة إلى الإمام الشافعي رضي الله عنه.
([9]) إعلام الموقِّعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزية، المجلد الأول ص: 429 ط: دار الحديث.
([10]) عوالي مالك بن أنس رواية الرازي، حديث رقم 15 .
([11]) شرح الأسباب العشرة الموجبة لمحبة الله، د. عبد العزيز كامل، ص: 48 الناشر: مركز الأجيال.
([12]) متفق عليه عن أنس رضي الله عنه.
([13]) سنن الترمذي (2165) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
التعليقات