احتواء السلفيين..واستلاب العقول

يرجى ملاحظة أن هذه المقالة من المقالات القديمة التي لا يتطابق تاريخ نشرها على الموقع مع تاريخ نشرها الفعلي

انبعث المنهج السلفي بقوة في النصف الثاني من القرن العشرين ليحرر العقول والنفوس من أسر التقليد المذهبي القائم على اتباع الأراء الفقهية المرسلة الغير مبنية على أدلة شرعية صحيحة ، وليخلصها من منهج الاتباع الصوفي القائم على نظرية “شيخ الطريقة والمريدين” الذين يتبعون الشيخ وينفذون أوامره دون النظر لمدى موافقتها أو مخالفتها للأدلة الشرعية .

وأدى هذا المنهج السلفي المبارك إلى إحياء الاتباع السني المبني على الدليل الشرعي ، مما أثمر نهضة فكرية وعلمية وعقلية ونفسية في صفوف أبناء الحركة الإسلامية توجت بظهور الصحوة الإسلامية المعاصرة كلاعب أساسي يؤدي دوراً هاماً وبارزا ً في تبني قضايا الأمة والدفاع عنها.

ولكن سرعان ما انتبهت الجاهلية لهذا المنهج الإحيائي وسعت لإحتوائه وحرفه عن مساره بواسطة سياسة تقوم على عدة محاور من أبرزها ” إحتواء الفكر عن طريق السيطرة على الرموز” ليتم تغيير المنهج بشكل قمي تنازلي بدءاً من الرموز وانتهاء بالأفراد حيث تم:

• شن حملات أمنية ودعائية تشويهية مكثفة ضد الرموز المؤثرة لتغييبها عن صدارة المشهد الدعوي، حيث منعها الأمن من إلقاء الدروس والخطب ، وسيطر على مساجدها ، وصادر إصداراتها المكتوبة والمسموعة ، ومنعها من الظهور في الفضائيات بينما سمح بالتواجد القوي لشخصيات أخرى بعضها محترم ولكنه يتبنى قضايا لا تؤثر على مجريات الأحداث وديمومة الظلم ، والبعض الاخر يتبنى أطروحات تكرس لهيمنة الباطل وتضفي الشرعية على وجوده ، وتثبط الناس عن إزالته وتغييره.

• الترويج لمعايير جديدة يتم من خلالها تقييم الرموز ، فظهرت معايير الشهرة الإعلامية واللغة الخطابية كبدائل لمعايير العمل بالعلم والصدع بالحق وتبني قضايا الأمة ، وصار مجرد الظهور المتكرر في البرامج الفضائية والكلام الفصيح المصحوب بابتسامات متواصلة أو بكاء مصطنع عوامل كافية لنيل الرمزية المطلوبة بالرغم من هشاشة المضمون وهامشية الطرح.

• ومن أخطر الخطط التي نفذت استبدال أطروحة ” اتباع الدليل” بأطروحة” تقديس المشائخ” ، ونفذت هذه الخطة بأسلوب ماكر وبسيط يقوم على فكرة أن الذي يعرف الأدلة الشرعية هو الشيخ ، لذا يجب أن نتبع الشيخ لأننا لن نعرف الأدلة أكثر منه ، ولما وُضعت من قبل معايير مصطنعة يقُوم من خلالها الرموز والمشائخ ، تقفز على المعايير المعروفة والمذكورة في كتب أصول الفقه، وتتخذ الشهرة الإعلامية مرتكزاً لها ، صار قطاع واسع من المشائخ المشهورين إعلاميا والمسموح بتواجدهم أمنياً هم مصدر التلقي الذي يتعرف منه الأفراد على دينهم وينزلون على أرائهم في النوازل والمستجدات ، وبهذه الحيلة تمت السيطرة على أقوى ركائز الفكر السلفي المتمثلة في أطروحة ” اتباع الدليل” ، وتمت العودة لمربع أسوأ من المربع القديم الذي كانت تقدس فيه أراء أئمة من أهل العلم المتقدمين المشهود لهم بالتقوى، وليُصار لتقديس أراء أحياء لا تؤمن عليهم الفتنة إن لم تكن أقوال وتصرفات بعضهم في ذاتها فتنة، وليتم استلاب ومصادرة عقول قطاعات واسعة من الأفراد بواسطة أطروحات فاسدة ، مما أنتج اتباعا يواجهون أصحاب أي مشاريع إصلاحية تغييرية بعدد من الأسئلة المنمطة تم زرعها في النفوس والعقول بطريقة لا شعورية ممنهجة ومن أبرزها:

من زكاك من المشائخ المشهورين؟

و هذا السؤال يتجاوز أصلا شرعيا هاما، وهو “قبول الحق من أي من كان ” حتى لو كان قائله هو الشيطان نفسه ، لأن الحق قيمته ذاتية تنبع منه نفسه لا من قائليه، دل على ذلك أحاديث عديدة ومواقف متنوعة من حياة الخلفاء الراشدين:

– فقد روى الإمام البخاري في صحيحه قصة أبي هريرة مع إبليس، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأبي هريرة : ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: يا رسول الله! زعم أنه يعلمني كلماتٍ ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: وما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم) (البقرة: 255)، وقال لي (ابليس): لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطانٌ حتى تصبح -وكانوا أحرص شيءٍ على الخير- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، أتعلم من تخاطب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة ؟ قال: لا. قال: ذاك الشيطان).

– وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحق من حبر يهودي: فعن قتيلة بنت صيفي الجهينية قالت: أتى حبر من أحبار اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، نعم القوم أنتم، لولا أنكم تشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سبحان الله وما ذاك ؟! ” قال : تقولون إذا حلفتم والكعبة. قالت: فأمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ثم قال: ” إنه قد قال، فمن حلف فليحلف برب الكعبة” قال : يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله نداً ، قال صلى الله عليه وسلم:” سبحان الله ، وما ذاك ؟! قال تقولون ما شاء الله وشئت . قالت فأمهل رسول الله صلى الله شيئاً ثم قال: “إنه قد قال، فمن قال : ما شاء الله فليفصل بينهما ثم شئت) ” رواه النسائي وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 1 / 213).

– وقبل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- الحق من امرأة عارضته في مسألة تحديد المهور وهو في خطبته على ملأ من الناس، فقال: ” أصابت امرأة واخطأ عمر ” … ولم يسألها رضي الله عنه: من أنت ؟ من زكاك من أهل العلم؟

– وتأمل قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه لحارث بن حوط حينما سأله: ” أتظن أن طلحة والزبير كانا على باطل؟ : يا حارث! إنه ملبوس عليك إن الحق لا يعرف بالرجال إعرف الحق تعرف أهله”. لذا تجب مناقشة الأطروحة ذاتها والفكرة نفسها ، لا أن يتم تجاهلها لحين التعرف على قائلها وخلفياته، مع التأكيد على عدم إهمال هذه الخلفيات لقوله صلى الله عليه وسلم: ” صدقك وهو كذوب”.

ما هي حصيلتك العلمية؟

وهذا السؤال يتجاهل أيضاً مسألة علمية هامة وهى ” تجزؤ العلم” فلا يلزم للتكلم في مسألة سوى العلم بها ، وبما يتعلق بها من مسائل ، لا العلم بغيرها من المسائل، حيث يقول العلامة ابن القيم في ” اعلام الموقعين”:

” الاجتهاد حالة تقبل التجزؤ والانقسام، فيكون الرجل مجتهدا في نوع من العلم مقلدا في غيره، أو في باب من أبوابه، كمن استفرغ وسعه في نوع من العلم بالفرائض وأدلتها واستنباطها من الكتاب والسنة دون غيرها من العلوم، أو في باب الجهاد أو الحج، أو غير ذلك، فهذا ليس له الفتوى فيما لم يجتهد فيه، ولا تكون معرفته بما اجتهد فيه مسوغة له الإفتاء بما لا يعلم في غيره، وهل له أن يفتي في النوع الذي اجتهد فيه؟ فيه ثلاثة أوجه: أصحها الجواز، بل هو الصواب المقطوع به. والثاني: المنع. والثالث: الجواز في الفرائض دون غيرها.

من أنا حتى استطيع فهم الدليل أو التعامل معه مباشرة ؟ 

قائل هذا السؤال لا يستطيع حسب كلامه فهم الدليل ، لذا يُعد مقلداً، والمقلد لا يجوز له نقل الفتوى لغيره بل عليه العمل بها في نفسه فقط، فعلى سبيل المثال إذا أفتاه الشيخ فلان بعدم جواز المظاهرات عليه ألا يشارك فيها بنفسه لا أن يدعو الناس لعدم المشاركة ، لأنه بذلك يتعدى حدوده كمقلد، يقول ابن القيم في ” أعلام الموقعين (“لا يجوز للمقلد ان يفتي في دين الله بما هو مقلد فيه وليس على بصيرة فيه سوى أنه قول من قلده دينه هذا إجماع من السلف كله)، ولا يجوز له من باب أولى التشنيع على أصحاب الاجتهادات المخالفة من أهل العلم لأنه ليس نداً لهم ليناقشهم أو ينتقص منهم” .

تداعيات هيمنة أطروحة ” تقديس المشائخ”

أنتجت هذه الأطروحة قطاعات سلفية لا تتحرك لنصرة قضايا الأمة إلا إذا أذن لهم الشيخ المشهور فلان أو علاَّن بالرغم من وضوح الأدلة الشرعية في هذه القضايا، فغابت الألوف عن المشاركة في الأحداث المفصلية والهامة مثل:

• ثورة يناير التي قامت لاسقاط طاغية يحكم بالحديد والنار، ويكتوي الإسلاميون بظلمه أكثر من غيرهم.

• قضية مقتل سيد بلال ومن قبله قضية مقتل خالد سعيد، ولنتأمل كيف حملت الأجيال المصرية الشبابية قضية خالد سعيد واخرجتها للعلن ، وجعلته رمزاً للمظلومين، بينما غيب بعض الإسلاميين قضية سيد بلال وعملوا على دفنها مع جثمانه ليطويه ويطويها النسيان.

• قضايا المختطفات من المسلمات الجدد مثل كاميليا شحاتة ووفاء قسطنطين، والتي تمثل في ذاتها قضايا إنسانية ذات فصول مأساوية ، فضلاً عن أبعادها الشرعية التي تستدعي للذاكرة مفاهيم الولاء والبراء ونصرة المظلوم.

• نصرة المظلومين من المعتقلين ، والمطالبة بمقاضاة ضباط التعذيب ومنتهكي حقوق البشر.

بل وصل الأمر إلى الجمع بين المتناقضات دون أن يثير ذلك تساؤلات في أذهان الأفراد: حيث تحول بعض المشهورين من القول ببدعية المظاهرات جملة وتفصيلاً إلى التحريض على المشاركة في مظاهرات للدفاع عن أحد المشايخ الفضلاء من أصحاب المواقف القوية الذابة عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يطرحوا تأصيلا جديدا ينقض التأصيل السابق لحرمة المظاهرات وبدعيتها ، وفجأة تحول مبارك بعد سقوطه من ولي أمر شرعي لا يجوز الخروج عليه إلى فرعون العصر.

ختاماً 

إن قطاعات واسعة من التيار السلفي تحتاج لاستثمار فترة الحرية الحالية لإجراء مراجعات حرة في ظروف صحية لا تخضع لضغوط أمنية أو مجتمعية لتصحيح منظومة المصالح والمفاسد المعوجة التي أنتجت مواقف مشينة و مخزية ، ولتعيد لأطروحة ” اتباع الدليل” رونقها ،ولتهدم مرة أخرى أطروحة ” تقديس المشائخ “، ولتعمل على بناء شخصيات سلفية حرة تتفاعل مع قضايا الأمة وتستشعر آلامها وتحمل أمالها وتسعى لنهضتها لتؤدي دورها المطلوب في قيادة البشرية لبر الأمان.


التعليقات