مذبحة رابعة يوم قتلنا أعداؤنا وقتلنا أنفسنا

اذكر أنني في يوم جمعة ٢٩ يوليو -التي سميت بجمعة قندهار- وكنت ألقي كلمة من فوق منصة قناة الحكمة؛ وقلت للجموع المحتشدة يومها نصاً: إننا نشهد اليوم نفس سيناريو عام ٥٤؛ حيث احتشد المصريون وأغلبهم من الإسلاميين في ميدان عابدين للاحتجاج على النظام الجديد ومحاولته تهميش دور الإسلاميين -الذين يتمثلون يومها -حركياً على الاقل- في جماعة الإخوان المسلمين فقط فلم يكن ثمَّ سواهم إلا جمعيات ذات سمت علمي ودعوي مسجدي فقط.

ويومها ترجى النظام فضيلة الأستاذ المستشار والفقيه الشهيد عبد القادر عودة ليصرف الناس من الميدان.

نعم لقد مر الجيل الأول في مصر من إسلاميي ما بعد إسقاط الخلافة بمحنة لا مثيل لها، ولكن ما جرى هو تزييف وعي الأجيال التالية بقصد او دون قصد من قيادات تلك المرحلة!!

حكى لي من حضر هذا الموقف الرهيب أن الأصوات كانت تصم الآذان ولا تستطيع سماع من بجوارك؛ حتى اعتلى الاستاذ عودة مكان التمثال الشاخص هناك فأقسم أن لو ألقيت القرش على الارض لسمعت رنته فقد صمت الناس احتراماً لصعود القائد في مقامه قبل أن يأمر الناس بالانصراف فينصرفوا.

ألح علي المشهد يومها لكنني تنبأت -وعذراً لتجاوز اللفظ- بأمرين: الأول: أننا نشهد بأعيننا التجربة الاولى بحذافيرها وأخطائها دون تزييف وتحريف منا ولا من الأعداء، والثاني: أن هذا الجيل لن يقبل أن يمر الحدث كما مر سلفه الأول.

نعم لقد مر الجيل الأول في مصر من إسلاميي ما بعد إسقاط الخلافة بمحنة لا مثيل لها، ولكن ما جرى هو تزييف وعي الأجيال التالية بقصد او دون قصد من قيادات تلك المرحلة!!

انا لا أتحدث هنا عن تشويه أعداء الدين والوطن وأعدائنا للإسلاميين آنذاك، لكنني أتحدث عن التزييف الممنهج من القيادات الإسلامية نفسها. فلأمر ما يراد ويوافق طبيعة الإخوان المسلمين كجماعة دعوية تربوية سياسية؛ تلعب الدعاية دوراً محورياً في تكوينها، وللتعمية والتغطية على الأخطاء الكارثية التي وقعت فيها قيادات الجماعة آنذاك؛ تم تكريس منظور المظلومية فقط -وهو حقيقة وقعت بالفعل- وكتبت عشرات الكتابات في تفاصيل تلك المحنة الرعيبة الرهيبة، واستجداء التعاطف واستحلاب الدموع!!

ولم تذكر قط العبر من الأخطاء الجسيمة للقيادة، تلك الأخطاء التي جرى تدريجياً طمسها وتجميلها تماماً كما جرى بعد انقلاب السيسي سفاح رابعة والنهضة، فقط بدأت التبريرات بالإقرار بوقوع أخطاء تسببت في الكارثة مع تخفيفها بأن الحرب كانت شعواء والضغوط هائلة، ثم انزلقت إلى قول بعضهم: أن الجميع أخطأ وأخيراً أنه لم تقع أخطاء ولم يكن في الإمكان أبدع مما كان وماحدث كان لقوة الخصوم فقط ومكرهم، وأرونا أنتم ماذا تصنعون، يا سادة نحن لم نكن في سدة الحكم لنريكم شيئاً وأبو إسماعيل ومن دعموه من القادة الأحرار مازالوا شهوداً أحياء!!

ولعل هذا الوعي المبكر لهذه القضية هو ما حدى بمنظري التيار الجهادي لعدم اجترار نفس البكائية ولا تسطيرها كتراجيديا سوداء رغم أنها كانت أطول واشد فداحة من سابقتها…

كما يبرز البعد الأخلاقي الذي يخجلك من جلد الضحية والانصراف -أو صرف الأذهان- عن جلد الجاني أو القاتل الخائن.

وقد كان التيار الجهادي الذي برز بقوة بعد اغتيال السادات أوائل الثمانينات أكثر وعياً لهذه النقطة، فاقتات على مظلومية الإخوان في الفترة الناصرية وكانت هي الوقود المؤجج لثورته الدامية، ولكنه كان أكثر سخطاً على أخطاء قادتها وسلميتهم المهلكة، كما كانت تقريرات المفاصلة للأستاذ الشيخ سيد قطب تمثل ضوابط ومعالم هذا الطريق الجديد، وياللعجب!!

ولعل هذا الوعي المبكر لهذه القضية هو ما حدى بمنظري التيار الجهادي لعدم اجترار نفس البكائية ولا تسطيرها كتراجيديا سوداء رغم أنها كانت أطول واشد فداحة من سابقتها، وذلك قبل أن تنتهي تماماً كتجربة إخوان عبد الناصر بالمراجعات التي طالت الجماعة الإسلامية وبعض الأفراد والمجموعات الجهادية الأخرى.

لكن عزاء المرحلة هو في بروز قيادة كالدكتور محمد كمال، وفريق عريض من شباب الإخوان يرفض الزيف ويأبى تكرار المهزلة، ذلك الشباب المجاهد العظيم الذي لم تعد تقنعه تلك الترهات من أبناء الإخوان الذين استفادوا من بطانتها التربوية والإنسانية الفريدة رغم تأثرها واهتزازها في آخر عشرة سنوات قبل ثورة يناير، إلا أنها تبقى الأروع في إنتاج الفرد المسلم الهادئ والمتزن وإن نقص تلك المنظومة التكامل أحياناً مع معاني أخرى كشفتها المحنة الأخيرة كما السابقة.


التعليقات