أسس صراع الكلمة مع الجاهلية

أبرز هذه الأسس التي يجب أن يتحرك بها المسلمون في صراع الكلمة مع الجاهلية:

الأول: رد الفكر الجاهلي إلي الواقع الجاهلي

وقيمة هذا الأساس هي إبراز التناقض بينهما لرد أي إدعاء جاهلي و تكذيبه و لهذا رد القرآن إدعاء اليهود و النصارى بأنهم أبناء الله إلي واقعهم: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ)( سورة المائدة الآية :18).

الثاني: كمال المواجهة

وأساس الكمال في المواجهة يعني أن يكون هناك رد لكل فكرة تثيرها الجاهلية ضد الإسلام، وهذا معني قوله تعالي: (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا)(سورة الفرقان الآية :33). كما يعني أن تكون الكلمة الأخيرة في أي جدل هي الكلمة الإسلامية وهذه قاعدة نجدها في كل حوار جاء في كتاب الله بين الجانب الإسلامي و الجاهلي.

وحتى عندما يضطر المسلم للسكوت في جدل مع الجاهلية فإن يقول ما يثبت به قدرته علي المواجهة و يثبت أن سكوته ليس عجزاً، إنما تنزها عن الاستمرار في مجادلة مع الجاهلية ليست بالحسنى وذلك في قوله تعالي: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)( سورة الفرقان الآية :63).

الثالث: استرداد المفاهيم المغتصبة

وهذا الأساس يعني أن نسترد أي مفهوم اغتصبته الجاهلية وأضافته إلي واقعها الفكري لتؤثر من خلاله علي العقل البشري ، وقد عرض القرآن حواراً بين مؤمن آل فرعون وبين فرعون استرد فيه المؤمن مفهوم (الرشاد) الذي اغتصبه فرعون فوصف به نفسه، وكان الحوار هو قول الله: (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)(سورة غافر الآية :29) ويستمر الحوار (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ)( سورة غافر الآية : 38).

فيسترد المؤمن بذلك مفهوم الرشاد. وبهذا الأسلوب تنشأ ضرورة استرداد أي مفهوم مغتصب بالتحديد الإسلامي الكامل لهذه المفاهيم وإثبات أنها لا تحتوي مضموناً ولا تمثل معني إلا بالتصور الإسلامي. ومثال ذلك مفهوم (العدل الاجتماعي) الذي اغتصبته الشيوعية ومفهوم (المحبة) الذي اغتصبته الصليبية.

الرابع: الجدل بالتي هي أحسن… وهو أهم الأسس

والجدل بالتي هي أحسن هو قرينة الحكمة في النص القرآني الذي أمر الله فيه بالدعوة إلي سبيله بها: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)( سورة النحل الآية : 125) وتحديد المبادئ التي نسير عليها في الجدل مع الجاهلية، من أهم أسس الصراع بالكلمة.

وهذه المبادئ تتحدد بصفة أساسية في عدة أمور:
1ـ مبدأ افتراض المخالفة:

وهو المدخل الذي يضع الطرف المجادل في أول الطريق الصحيح للتفكير، وبعد أن يطمئن إلي أن الطرف المسلم يضع نفسه معه في موضع المجادلة المشتركة لمعرفة الحق. ودليل هذا المبدأ هو قول الله: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)( سورة سبأ الآية : 24).

والمساواة بين الطرفين في احتمال الهدي أو الضلال . لا يعني المساواة بين تصور الطرفين لأن النص أثبت التقابل التام في التصور. (لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)(سورة سبأ الآية : 24). كما لا يعني انتقاض اليقين فيما عليه الجانب المسلم، ولكنه افتراض جدلي يثبت التجرد الإسلامي للحق. وقوله: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)( سورة سبأ الآية :24).

هذا من باب اللف والنشر: أي أن واحد من الفريقين مبطل والآخر محق لا سبيل إلي أن تكونوا أنتم ونحن علي الهدي أو علي الضلال، بل واحد منا مصيب)(1). ( قال قتاده: قد قال ذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم للمشركين والله ما نحن وإياكم علي أمر واحد أن أحد الفريقين لمهتد)(2).

2ـ نفي الفضل الشخصي في مجال الجدل:

وهذا ما نتعلمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن حيث الوصول إلي الحق يكون الدليل قول الله: (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي)(سورة سبأ الآية : 50) ومن حيث الاعتقاد فيه يكون الدليل قول الله (قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)(سورة الزخرف الآية : 81).

فليس لي موقف شخصي تجاه العقيدة إلا التسليم بما يأمرني به ربي ومن حيث التكليف به يكون الدليل…. (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ)(سورة هود الآية : 88). وهذا ما يثبت كذلك التجرد الإسلامي للحق.

3ـ مبدأ طلب الدليل:

وهو كذلك مبدأ جدلي يجب الالتزام به حتى مع الاعتقاد ببطلان الأمر الذي نطلب عليه الدليل. ودليل ذلك قول الله: (قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)( سورة البقرة الآية: 111).

4ـ مبدأ السماع الكامل:

وهو المبدأ الذي يحقق صفة التدبر لأن التدبر من الدبر أي الآخر. وهذا يعني أن التدبر لا يتحقق إلا بسماع الكلام إلي آخره. كما أن سماع الطرف المقابل إلي النهاية يوحي بثقة الطرف المستمع فيما عنده وهذا رسولنا عليه الصلاة والسلام يتحدث إليه عتبة بن ربيعة فلا يقاطعه الرسول حتى ينتهي ثم يقول له: (انتهيت)؟. قال: نعم . قال: (فاسمع مني)(3) و هكذا.

5ـ مبدأ الدفاع عن الرأي:

وهو معني الجدل، والالتزام بهذا المبدأ سيحدد مقياساً علمياً لأطراف الجدل، لأنه لن يدخل الجدل إلا من هو علي يقين بما عليه من رأي، ومجرد اتهام الرأي المخالف لا يتطلب العلم الذي يتطلبه الدفاع عن الرأي الصحيح. ولذلك فإن الالتزام بمبدأ الدفاع عن الرأي سيترتب عليه ارتفاع المستوي العلمي اللازم لتكوين الرأي مع انحسار موجة الجدل في حدود الضرورة.

(1) تفسير ابن كثير.
(2) تفسير الطبري.
(3) وهذا الأثر أخرجه ابن إسحاق في المغازي كما في سيرة بن هشام (185/1) بسند مرسل حسن قال الألباني ووصله عبد بن حمير وأبو يعلي والبغوي من طريق آخر وسنده حسن.
ملاحظة: هذا النقل من كتاب حكمة الدعوة للشيخ رفاعي سرور رحمه الله.

التعليقات