مدرسة الشر

أثناء القراءة في بعض الكتب التي تتناول الهيمنة الأمريكية، ودور وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في تنفيذ انقلابات عسكرية وتمردات ضد حكومات تعتبرها أميركا معادية لها، صادفت باستمرار فقرات تتحدث عن مدرسة للجيش الأميركي تدعى (مدرسة الأمريكتين) اختصت بتدريب المبتعثين من ضباط أميركا الجنوبية. تأسست تلك المدرسة في قناة بنما عام 1946 تحت غطاء تشجيع التعاون بين الجيش الأميركي وجيوش أمريكا اللاتينية، وتعليم المبتعثين قواعد الاحتراف العسكري، وتوسيع اطلاعهم على التقاليد العسكرية الأمريكية، فضلا عن تدريبهم على آليات السيطرة المدنية على القوات المسلحة، ومع اندلاع الحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفيتي تحول تركيز المدرسة إلى مكافحة التمردات الشيوعية.

تخرج من تلك المدرسة عدد من كبار طغاة أميركا اللاتينية في مقدمتهم 6 أشخاص قفزوا إلى مقاعد السلطة عبر انقلابات عسكرية..

حسب البيانات الرسمية المتاحة عن المدرسة، فقد كانت تقدم 34 دورة مختلفة باللغة الإسبانية لطلاب بلغ عددهم 58 ألف طالبا ينتمون إلى 16 دولة. وقد كانت عمليات التدريب تمول من مخصصات برنامج التعليم والتدريب العسكري الدولي (IMET)، والأموال القابلة للاسترداد الممنوحة لبلدان أمريكا اللاتينية بموجب برامج المبيعات العسكرية الخارجية للولايات المتحدة (FMS). وقد أُغلقت المدرسة في عام 1984 ثم أعيد افتتاحها لاحقا في ولاية جورجيا الأمريكية.

تخرج من تلك المدرسة عدد من كبار طغاة أميركا اللاتينية في مقدمتهم 6 أشخاص قفزوا إلى مقاعد السلطة عبر انقلابات عسكرية، ومن أبرزهم ديكتاتور بنما مانويل نورييجا. كما تخرج منها عدد من أباطرة التعذيب مثل المشرف على فرق الموت في السلفادور وروبرتو دي أوبيسون.

تركزت الأضواء على المدرسة في عام 1992 إثر تفجر فضيحة تختص ببرامج التدريب التي يتلقاها المتدربون داخل المدرسة. وذلك عقب تحقيقات صحفية كشفت عن تورط عدد كبير من خريجي المدرسة في أعمال قمع بكولومبيا وبيرو وبنما وسلفادور وهندوراس وغيرها عقب حصولهم على برامج تأهيلية تتعلق بأساليب التحقيق مع الموقوفين، وإدارة الجواسيس والمخبرين، وقمع الحركات المناهضة للحكومة، وكيفية اختراق الاتحادات العمالية والنقابات والهيئات الحكومية، وتوظيف ذلك في اسقاط الحكومات الشيوعية.

تلك الضجة الإعلامية دفعت وزارة الدفاع الأمريكية لإجراء تحقيق رسمي في الأمر. وعقب انتهاء التحقيق صدر قرار بوقف تدريس عدد من الكتب المعتمد تدريسها في الدورات التدريبية. ثم رفع البنتاجون في عام 1996 السرية عن 5 كتب عسكرية تدرس بالمدرسة، في حين رفعت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية السرية في عام 1997 عن كتيبين إضافيين استجابة لطلب قدمته الصحفية بالتيمور صن بعد تهديدها بمقاضاة وكالة المخابرات المركزية وفقا لقانون حرية المعلومات. ثم توالى رفع السرية عن إصدارات أخرى. ومن أبرز الإصدارات المرفوع عنها السرية (دليل كوبارك)، و(دليل التدريب على استغلال الموارد البشرية). وهما كتابان من إعداد السي آي إيه يختصان بأساليب التحقيق مع الموقوفين. وقد أصبحا متاحين للجمهور على شبكة المعلومات الدولية في عام 2004.

ومؤخرا بدأت في قراءة أحد تلك الكتب الإصدارات، وهو بعنوان (العمليات النفسية في حرب العصابات)، وهو عبارة عن دليل تكتيكي للعمليات النفسية في حرب العصابات وزعته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية على عناصر الكونترا في أميركا الوسطى في عام 1984.

رغم صغر حجم كتاب (العمليات النفسية في حرب العصابات) إلا أنه ثري للغاية، حيث يشدد على خطورة رؤية حرب العصابات من منظور الأعمال القتالية فقط…

وقبل تناول مضمون الكتاب سأوضح ما المقصود بعصابات الكونترا. فالكونترا هي مجموعة يمينية شنت حرب عصابات في نيكارجوا ضد الحكومة التي شكلتها الجبهة الساندينية للتحرير الوطني عقب تمكن الأخيرة من الإطاحة بحكم الديكتاتور سوموزا إثر حرب طاحنة نهاية سبعينات القرن العشرين. وقد ارتبط اسم عصابات الكونترا بفضيحة (إيران- كونترا) التي تفجرت عام 1986، وتمحورت حول موافقة الرئيس الأميركي رونالد ريجان على بيع أسلحة متطورة شملت ثلاثة آلاف صاروخ من طراز تاو المضاد للدروع، وصواريخ أرض جو من طراز هوك المضاد للطائرات إلى إيران أثناء حربها مع العراق في مقابل إطلاق رهائن أمريكيين محتجزين في لبنان من قبل مليشيات موالية لإيران، بالتوازي مع توجيه عوائد البيع إلى عصابات الكونترا في نيكارجوا. ونظرا لأن الإدارة الأميركية في تلك الآونة كانت تصنف إيران كدولة راعية للإرهاب، وكان الكونجرس والأمم المتحدة يفرضان حظرا على بيع الأسلحة إلى طهران، فقد باعت واشنطن تلك الأسلحة لإيران عبر إسرائيل. وقد أشرف على تنفيذ الصفقة أولفر نورث مساعد مستشار الأمن القومي الأمريكي آنذاك.

رغم صغر حجم كتاب (العمليات النفسية في حرب العصابات) إلا أنه ثري للغاية، حيث يشدد على خطورة رؤية حرب العصابات من منظور الأعمال القتالية فقط. ويؤكد أن الأعمال القتالية لا تمثل بمفردها مفتاح الانتصار في حرب العصابات إنما هي جزء واحد من أجزاء أساسية لازمة للانتصار. ومن ضمن تلك الأجزاء الأخرى: القدرة على السيطرة على عقل الإنسان بما يمكن من هزيمته دون ثمن باهظ. وإيمان الفرد المقاتل بالقضية التي يناضل من أجلها، وقدرته على إقناع الآخرين بها. واختراق التكتلات الجماهيرية وتوظيفها لتدمير هياكل العدو ومؤسساته.

وضمن ذلك الإطار يناقش الكتاب الدور الذي تلعبه فرق الدعاية في حشد الجماهير وتثويرها ضد النظام الحاكم، ويشرح أساليب وخطوات اختراق الهيئات والمنظمات التي تعترف بها الحكومة تمهيدا لدمجها في جبهة واحدة معارضة يُعلن عنها مع تصاعد الغضب الجماهيري. كما يتطرق إلى تكتيكات السيطرة على الحشود الجماهيرية وتوجيهها، ويتناول كذلك أهمية الاتفاق مع العناصر الجنائية على القيام بأعمال تخريبية محددة بدقة.

تكمن أهمية هذا الكتاب في أنه يقدم توجيهات عامة لا تختص بعصابات الكونترا في نيكارجوا فقط. وسيجد على سبيل المثال من عاصر الأحداث في مصر خلال الفترة الممتدة من ثورة يناير 2011 إلى انقلاب 3 يوليو 2013 أنها تكاد تكون بمثابة تطبيق حرفي لكثير من التعليمات والتوجيهات الواردة في كتاب (العمليات النفسية) المشار إليه. وهو ما يبرهن على أهمية الإطلاع على تلك النوعية من الإصدارات لفهم تكتيكات الأجهزة الاستخبارية في استثارة وتحريك الجماهير، مما سيساعد على وضع تكتيكات مضادة تحبط خططها وترتيباتها.

 

مصدر المقال: موقع البوصلة

التعليقات