مع تزايد قدرة الجماعات المسلحة والتنظيمات العابرة للدول على عرقلة مخططات الدول الكبرى وإفساد مشاريعها مثلما حدث مع أميركا عقب غزوها للعراق في عام 2003. تركز الاهتمام الغربي على تأطير فهم بنية الجماعات المسلحة، وأهدافها، ودوافع الأفراد للالتحاق بها. وذلك بهدف المساعدة على وضع تصورات ومعايير مرجعية يمكن الاستناد إليها في تفكيك تلك الجماعات والقضاء عليها. ويعد دليل الجيش الأميركي الميداني لمكافحة التمرد (FM-24/3) الصادر عام 2006 أحد أبرز المراجع التي تناولت تلك المسائل بقدر كبير من المنهجية والتفصيل.
أشرف على إعداد الدليل الجنرال ديفيد بترايوس قائد مركز الأسلحة المشتركة بقاعدة ليفنورث بكانساس آنذاك، ولاحقا مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (2011-2012)، كما تولى قيادة المنطقة المركزية الأميركية التي أشرفت على حربي العراق وأفغانستان، وتحملت النصيب الأكبر من الحرب العالمية على الإرهاب. وقد استفاد بترايوس في صياغة الدليل من خبرته العملية التي اكتسبها بمستهل خدمته في ثمانينات القرن العشرين بالقيادة الأميركية الجنوبية في مكافحة التمردات الشيوعية في بنما وهندوراس والسلفادور، فضلا عن دراسته لكتب خبير مكافحة التمردات الفرنسي ديفيد جاليولا.
أولا: فهم دوافع وبنية الجماعات المسلحة:
تبدأ أولى خطوات مواجهة الجماعات المسلحة من فهم الدوافع التي تدفع كوادرها لانتهاج العمل المسلح، هل هي دوافع سياسية أم عرقية أم اقتصادية أم دينية أم أيدلوجية أم خليط بين ذلك؟، ومدى عمق إلتزام المسلحين بتلك الدوافع. وفهم تكوينها الداخلي. حيث تتكون الجماعات المسلحة عادة من خمسة عناصر، وهي:
• قادة الجماعة: وهم من يحددون الاتجاه الاستراتيجي للجماعة. وعادة ما يمارسون القيادة عبر قوة شخصيتهم، وسحر كاريزميتهم، وجاذبية أفكارهم.
• المقاتلون: هم من يخوضون المواجهات، ويوفرون الحماية للمقرات وشبكات الدعم.
• الكادر السياسي: يتولى مهمة التوجيه السياسي، والعمل على تحقيق الأهداف السياسية التي يحددها قادة الجماعة.
• العناصر المساعدة: وهم الذين يقدمون خدمات الدعم من قبيل: توفير المنازل الآمنة، والتمويل، والمستندات المزورة أو المسروقة، وتخزين الأسلحة.
• القاعدة الجماهيرية: وتتشكل من عامة المؤيدين للجماعة.
وبناء على ما سبق يصبح من المهم التعرف على:
• الزعماء الأساسيين، وشخصياتهم، وطباع كل واحد منهم (على سبيل المثال: مندفع، عنيف، حريص، مفكر)، ودورهم في التنظيم، وخلفيتهم وتاريخهم وخبراتهم السابقة، ومستوى تعليمهم وتدريبهم، ومدى شعبيتهم خارج الجماعة وداخلها.
• شكل الهيكل التنظيمي هل هو هرمي أم لا، وهل هناك عدد قليل من القادة مما يعزز سرعة اتخاذ القرار؟ أم أن هناك كثرة في القيادات مما يعزز القدرة على الصمود؟.
• أماكن الملاجئ الآمنة، والمقرات، ومخازن الأسلحة، والأساليب المستخدمة في التجنيد والتدريب وجمع المعلومات.
• الأنشطة العنيفة ونقاط ضعفها، من قبيل: مستوى الأمن العملياتي، والأسلحة المتوفرة وإمكانياتها، ومعدل شن الهجمات وتوقيتها وأهدافها، والتكتيكات والتقنيات المستخدمة في تنفيذها.
• أنشطة الدعم، ونقاط ضعفها، والشبكات الإجرامية المتواجدة في الساحة، وحجم تقاطعاتها مع الجماعات المسلحة.
• حجم الدعم الشعبي أو القبول للجماعات المسلحة وأنشطتها.
ثانيا: فهم المقاربة المعتمدة لدى الجماعات المسلحة
بعد فهم دوافع وبنية الجماعات المسلحة، يصبح من المهم فهم المقاربات التي تعتمدها لتحقيق أهدافها. ويركز الدليل على تناول 6 مقاربات عادة ما تنتهجها الجماعات المسلحة، وهي:
1- المقاربة العسكرية:
تركز على استخدام القوة العسكرية لتحقيق أهداف الجماعة. وتتميز هذه المقاربة بكثرة عدد القادة والمقاتلين، وقلة عدد الكوادر السياسية أو للقاعدة الجماهيرية. ومن أبرز نظريات تلك المقاربة نظرية (البؤر الثورية) التي تبناها جيفارا، والتي تتلخص في أن العمل المسلح في حد ذاته يمكنه أن يخلق الظروف المطلوبة للإطاحة بأي حكومة، وذلك عبر قيام مجموعة صغيرة من الثوار بشن حرب عصابات انطلاقا من الريف ضد النظام الحاكم، بالتوازي مع العمل على كسب دعم الجماهير. وقد نجحت تلك المقاربة في كوبا عام 1959 لكن دفع جيفارا حياته ثمن فشلها في بوليفيا لاحقا.
2-المقاربة الحضرية:
تركز على العمل الأمني في المدن عبر خلايا صغيرة ومستقلة تستقطب كوادرها من أفراد من نفس العائلة أو ممن يجمعهم انتماء ديني أو سياسي أو مجموعة اجتماعية واحدة. ويستهدف هذا النهج إضعاف الحكومة وزعزعة هيبتها عبر شن عمليات مسلحة في المدن والمناطق الحضرية تظهر عدم قدرة الحكومة على تأمين المرافق الهامة أو قادتها وكوادرها.
3- مقاربة الحرب الشعبية الممتدة:
تركز على شن حرب عصابات طويلة الأمد عبر ثلاثة مراحل:
• مرحلة الدفاع الاستراتيجي: تميل خلالها كفة القوة العسكرية لصالح الحكومة، بينما يركز المسلحون على البقاء، وتجنيد وتنظيم وتدريب الكوادر، والتغلغل داخل المؤسسات الحكومية والمجموعات المدنية، وإقامة خلايا استخبارية وعملياتية وشبكات دعم. وجمع التبرعات والحصول على تمويل.
• مرحلة التوازن الاستراتيجي: تصل خلالها علاقات القوة إلى نوع من التوازن، وتعمل خلالها الجماعة المسلحة على تقويض الدعم الشعبي للحكومة، وبسط وتوسعة نطاق سيطرتها.
• مرحلة الهجوم الاستراتيجي المضاد: عندما يصبح لدى الجماعة تفوق في القوة، وقوات عسكرية كبيرة، فتلجأ حينئذ إلى العمليات القتالية التقليدية لتدمير القدرات العسكرية الحكومية.
وقد استخدم هذه المقاربة الشيوعيون الصينيون في هزيمة الحكومة الصينية بعد الحرب العالمية الثانية. واستخدمها الفيتناميون الشماليون والجزائريون ضد أميركا وفرنسا عقب تعديلها بحيث تلائم واقعهم وظروفهم الخاصة. ويتسم هذا النهج بوجود قاعدة جماهيرية كبيرة، والاستخدام الواسع للأنشطة السياسية والإعلامية.
4- المقاربة الهوياتية:
تركز تلك المقاربة على تعبئة وحشد الدعم بناء على الهوية المشتركة الدينية أو العشائرية أو العرقية. وعادة ما تمتزج هذه المقاربة بمقاربات أخرى مثل المقاربة العسكرية أو الحضرية. ومن أبرز النماذج التي تطبق ذلك النموذج حزب العمال الكردستاني. ويتسم هذا النهج بوجود فجوة ” نحن وهم” بين الحكومة وواحدة أو أكثر من المجموعات العرقية أو القبلية أو الدينية.
5- المقاربة التآمرية:
تركز على الاستيلاء على الهياكل الحكومية أو استغلال الموقف الثوري. وتضم هذه المقاربة عادة عدد قليل من القادة وكادر عسكري أو حزب ناشط. وفي هذا النهج تعمل الجماعة في جو من السرية لأطول فترة ممكنة، وتظهر فقط عندما يمكنها تحقيق النجاح بشكل سريع. ومن أبرز النماذج التي اتبعت تلك المقاربة الثورة البلشفية في عام 1917.
6-مقاربات مركبة:
تمزج بين المقاربات السابقة، مثلما فعلت جماعات المقاومة بالعراق ضد الغزو الأميركي، والتي اعتمدت على البعد الهوياتي السني، والمقاربة الحضرية في العاصمة بغداد، والمقاربة العسكرية في مناطق أخرى مثل الفلوجة.
أهمية تحديد نوع المقاربة المتبعة:
يحظى تحديد المقاربة التي تتبعها الجماعات المسلحة بأهمية كبيرة، حيث تؤثر المقاربة الاستراتيجية المتبعة على نسبة كل عنصر من عناصر تكوين الجماعات المسلحة، فمثلا: الجماعات ذات المنحى العسكري تقلل عادة من شأن الكادر السياسي، وتعتبر أن التحرك العسكري سيعمل على جلب الدعم الشعبي، وهو ما يتجلى في نموذج تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام. ويؤكد دليل الجيش الأميركي لمكافحة التمرد على ضرورة عدم الاقتصار على تحديد مقاربات الجماعات المسلحة، والحرص بالإضافة إلى ذلك على فهم نقاط قوة الجماعات وضعفها في سياق البيئة العملياتية. فالمسلحين قد يكونون غير أكفاء في استخدام مقاربة معينة. كما قد يسيئون قراءة البيئة العملياتية فيستخدمون مقاربة غير مناسبة. وهو ما يوفر فرصا يمكن استغلالها من قبل القوات الحكومية.
ثالثا: فهم مواطن الضعف لدى الجماعات المسلحة
بعد تحديد دوافع الإنتماء إلى الجماعة المسلحة، وفهم عناصرها التكوينية الأساسية، والمقاربة التي تتبناها لتحقيق أهدافها، تأتي خطوة فهم مواطن الضعف لدى الجماعات المسلحة عموما، ومن أبرزها:
• الحاجة إلى السرية: فأي جماعة مسلحة تبدأ من وضع ضعيف، وتنوي استخدام العنف من أجل تحقيق أهدافها السياسية، تستخدم في البداية مقاربة مناسبة لإخفاء مخططاتها وأنشطتها. ومن ثم تكون السرية نقطة ضعف قد تقلل أو تشوه المعلومات المتاحة عن أفكار وأهداف الجماعة لدى الجماهير.
• التناقض في رسائل التعبئة والحشد: قد تكون القضية التي تتبناها الجماعة المسلحة غير واضحة في أعين الجماهير أو غير حاضرة في أذهانهم وقلوبهم أو تكون قابلة لإظهار التناقضات بشأنها عبر التركيز على دموية وعنف المسلحين، وتناقض ذلك مع إدعائهم حماية الجماهير والدفاع عنهم. وكذلك قد تكون القضية قابلة للسطو عليها، حيث يمكن التصدي للأيديولوجية القائمة على تفسيرات معينة للنصوص الدينية عبر الاستعانة بنصوص وتفسيرات لرموز دينيين أو قادة يحظون بالاحترام تعاكس استدلال الجماعة بذات النصوص.
• الحاجة إلى تأسيس قاعدة عمليات: قد يواجه المسلحون مصاعب جمة في العثور على قاعدة عمليات مناسبة. فالقاعدة البعيدة جداً عن المراكز الرئيسية للنشاط قد تكون آمنة ولكنها عرضة لمخاطر فقدان التواصل مع الجماهير، وقابلة للانعزال عن الميدان. كما أن أي قاعدة تُقام بالقرب من مراكز النشاط الحكومي تكون قابلة للانكشاف للأجهزة الأمنية.
• الحاجة للحصول على موارد مالية: تعاني الجماعات المسلحة عادة في توفير الموارد المالية اللازمة لأنشطتها. وبالتالي فإن التدابير الحكومية والقوانين التي تحد من الحركة ونقل الأموال قد تكون فعالة، وبالأخص في حالة تلقى الجماعة تمويلها من خارج البلاد.
• الانقسامات الداخلية: قد تدفع النجاحات التي تحرزها القوات الحكومية أو الأخطاء التي يرتكبها قادة الجماعات المسلحة إلى وقوع خلافات أو تشكك بعض عناصر الجماعة في قضيتهم وقابليتها للانتصار. وبالتالي ينصح الدليل بالتيقظ لأي علامات تدل على وجود انقسامات بين المسلحين. واستغلال أي هوة أو شقاق بين قادة الجماعة لزيادة الخلافات مما يؤدي إلى تمزيق كيانهم وإضعافه.
• الحاجة إلى الحفاظ على الزخم: عندما تبدأ المواجهات يكون زمام المبادرة في يد المسلحين من جهة التحكم في سرعة وتوقيت العمليات، ولكن الجماعات التي تعجز عن الاستفادة من هذه الفرصة الأولية عادة ما تفقد زخمها، ويتحول زمام المبادرة إلى يد القوات الحكومية لتضبط هي إيقاع وسرعة الأحداث.
• تغلغل المخبرين: لا شيء يضعف معنويات المسلحين أكثر من ادراكهم أن أفراد من داخل حركتهم أو أن الداعمين الثقات لهم يتخلون عنهم، أو يمدون الحكومة بالمعلومات عنهم آملا في عقد صفقة سياسية أو نيل عفو أو الحصول على مكافأت، مما يقوض ثقة عناصر الجماعة ببعضهم البعض، ويعجل بتقويض أركانها.
الخلاصة
تلك المحاور السابقة توضح كيف يراكم الجيش الأميركي خبراته ويعمل على إنتاج إصدارات مرجعية تساعده على فهم خصومه فضلا عن توفيرها لإرشادات تساهم في تقديم رؤية متكاملة ومسارات واضحة يمكن الاعتماد عليها في التعامل مع التحديات الشبيهة. وهو ما يستلزم من الشعوب المستضعفة الاستفادة من تلك الجهود المؤسسية الأجنبية في تكوين كوادر مؤهلة تقود الصراع مع الاحتلال بأشكاله المباشرة وغير المباشرة وفق رؤى استراتيجية تقوم على العلم وتراكم الخبرات.
التعليقات